فيضمن قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل معنيين :
أحدهما : نهي معقود بشريطة محتاجة إلى بيان في إيجاب حكمه ، وهو قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل لأنه يحتاج إلى أن يثبت أنه أكل مال باطل حتى يتناوله حكم اللفظ .
والمعنى الثاني : إطلاق سائر التجارات ، وهو عموم في جميعها لا إجمال فيه ولا شريطة ، فلو خلينا وظاهره لأجزنا سائر ما يسمى تجارة ، إلا أن الله تعالى قد خص منها أشياء بنص الكتاب وأشياء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي سائر وجوه الانتفاع ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : فالخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وسائر المحرمات في الكتاب لا يجوز بيعها اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وقال في الخمر : لعن الله ولعن بائعها ومشتريها . إن الذي حرمها حرم بيعها وأكل ثمنها
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وبيع العبد الآبق وبيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان ونحوها من البياعات المجهولة والمعقودة على غرر ، جميع ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم
وقد قرئ قوله : إلا أن تكون تجارة عن تراض بالنصب والرفع ، فمن قرأها بالنصب كان تقديره : إلا أن تكون الأموال تجارة عن تراض ، فتكون ؛ إذ كان أكل المال بالباطل قد يكون من جهة التجارة ومن غير جهة التجارة ، فاستثنى التجارة من الجملة وبين أنها ليست أكل المال بالباطل . التجارة [ ص: 132 ] الواقعة عن تراض مستثناة من النهي عن أكل المال
ومن قرأها بالرفع كان تقديره : إلا أن تقع تجارة ، كقول الشاعر :
فدى لبني شيبان رحلي وناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
يعني : إذا حدث يوم كذلك .وإذا كان معناه على هذا كان النهي عن أكل المال بالباطل على إطلاقه لم يستثن منه شيء ، وكان ذلك استثناء منقطعا بمنزلة : لكن إن وقعت تجارة عن تراض فهو مباح .
وقد دلت هذه الآية على لإباحة الله التجارة الواقعة عن تراض ، ونحوه قوله تعالى : بطلان قول القائلين بتحريم المكاسب وأحل الله البيع وقوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وقوله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فذكر الضرب في الأرض للتجارة وطلب المعاش مع الجهاد في سبيل الله ، فدل ذلك على أنه مندوب إليه ؛ والله تعالى أعلم وبالله التوفيق .