وقوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول روي عن مجاهد وقتادة وميمون بن مهران : " إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم " . قال والسدي : وذلك عموم في أبو بكر . والرد إلى الكتاب والسنة يكون من وجهين : وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في حياة النبي وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم
أحدهما : إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه ، والثاني : الرد إليهما من جهة الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس والنظائر ؛ وعموم اللفظ ينتظم الأمرين جميعا ، فوجب إذا تنازعنا في شيء رده إلى نص الكتاب والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة ، وإن لم نجد [ ص: 179 ] فيه نصا منهما وجب رده إلى نظيره منهما ؛ لأنا مأمورون بالرد في كل حال ؛ إذ لم يخصص الله تعالى الأمر بالرد إليهما في حال دون حال .
وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نص فيه وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه ، فظاهر ذلك يقتضي رد المتنازع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة .
فإن قيل : إنما المراد بذلك ترك التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قيل : إن ذلك خطاب للمؤمنين ؛ لأنه قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن كان تأويله ما ذكرت فإن معناه : اتبعوا كتاب الله وسنة نبيه وأطيعوا الله ورسوله ؛ وقد علمنا أن كل من آمن ففي اعتقاده للإيمان اعتقاد لالتزام حكم الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى : فردوه إلى الله والرسول وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية ، وهو قوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فغير جائز حمل معنى قوله تعالى : فردوه إلى الله والرسول على ما قد أفاده بديا في أول الخطاب ، ووجب حمله على فائدة مجددة وهو رد غير المنصوص عليه وهو الذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه ؛ وعلى أنا نرد جميع المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة بحق العموم ولا نخرج منه شيئا بغير دليل .
فإن قيل : لما كانت الصحابة مخاطبين بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان معلوما أنه لم يكن يجوز لهم استعمال الرأي والقياس في أحكام الحوادث بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بل كان عليهم التسليم له واتباع أمره دون تكلف الرد من طريق القياس ، ثبت أن المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه . قيل له : هذا غلط وذلك ؛ لأن استعمال الرأي والاجتهاد ورد الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حالين ولم يكن يجوز في حال ؛ فأما الحالان اللتان كانتا يجوز فيهما فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال له : ؛ فهذه إحدى الحالين اللتين كان يجوز الاجتهاد فيهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم . والحال الأخرى : أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد [ ص: 180 ] بحضرته ورد الحادثة إلى نظيرها ليستبرئ في اجتهاده وهل هو موضع لذلك ، ولكن إن أخطأ وترك طريق النظر أعلمه وسدده ، وكان يعلمهم وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث بعده . فالاجتهاد بحضرته على هذا الوجه سائغ ، كما حدثنا كيف تقضي إن عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : أقضي بسنة نبي الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي لا آلو ، قال : فضرب بيده على صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع أسلم بن سهل قال : حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله قال : حدثنا أبي عن عن حفص بن سليمان كثير بن شنظير عن عن أبي العالية قال : عقبة بن عامر عقبة قلت : يا رسول الله أقضي بينهما وأنت حاضر قال : اقض بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة ؛ فأباح له النبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد بحضرته على الوجه الذي ذكرنا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقض بينهما يا لمعاذ وعقبة بن عامر بالاجتهاد صدر عندنا عن الآية ، وهو قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول لأنا متى وجدنا من النبي صلى الله عليه وسلم حكما مواطئا لمعنى قد ورد به القرآن حملناه على أنه حكم به عن القرآن وأنه لم يكن حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم كنحو قطعه السارق وجلده الزاني وما جرى مجراهما ؛ فقول القائل " إن الاجتهاد في أحكام الحوادث لم يكن سائغا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإن رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة كان واجبا حينئذ ، فدل على أن المراد به ترك الاختلاف والتنازع والتسليم للمنصوص عليه في الكتاب والسنة " غير صحيح .
وأما الحال التي لم يكن يسوغ الاجتهاد فيها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهو أن يجتهد بحضرته على جهة إمضاء الحكم والاستبداد بالرأي لا على الوجه الذي قدمناه ، فهذا لعمري اجتهاد مطرح لا حكم له ، ولم يكن يسوغ ذلك لأحد ، والله أعلم .