فصل قوله عز وجل : وجوهكم قال : قد قيل فيه : إن أبو بكر من قصاص الشعر إلى أصل الذقن إلى شحمة الأذن ، حكى ذلك حد الوجه عن أبو الحسن الكرخي أبي سعيد البردعي ؛ ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى . وكذلك يقتضي ظاهر الاسم ؛ إذ كان إنما سمي وجها لظهوره ولأنه يواجه الشيء ويقابل به ؛ وهذا الذي ذكرناه من تحديد الوجه هو الذي يواجه الإنسان ويقابله من غيره .
فإن قيل : فينبغي أن يكون الأذنان من الوجه لهذا المعنى . قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأن الأذنين تستران بالعمامة والقلنسوة ونحوهما كما يستر صدره ، وإن كان متى ظهر كان مواجها لمن يقابله . وهذا الذي ذكرنا من معنى الوجه يدل على أن بالآية ؛ إذ ليس داخل الأنف والفم من الوجه ؛ إذ هما غير مواجهين لمن قابلهما . وإذا لم تقتض الآية إيجاب غسلهما وإنما اقتضت غسل ما واجهنا وقابلنا منه فمن قال بإيجاب المضمضة والاستنشاق فهو زائد في حكم الفرض ما ليس منه ، وهذا غير جائز لأنه يوجب نسخه . المضمضة والاستنشاق غير واجبين
فإن قيل : قول النبي صلى الله عليه وسلم : وقوله صلى الله عليه وسلم حين توضأ مرة مرة : بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما يوجب فرض المضمضة والاستنشاق . قيل له : أما الحديث الذي فيه أنه توضأ مرة مرة ثم قال : هذا وضوء لا يقبل [ ص: 341 ] الله الصلاة إلا به فإنه لم يذكر فيه أنه تمضمض فيه واستنشق ، وإنما ذكر فيه الوضوء فحسب ، والوضوء هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به تعالى ، وجائز أن لا يكون تمضمض واستنشق في ذلك الوضوء لأنه قصد به توقيفهم على المفروض الذي لا يجزي غيره ؛ فإذا لا دلالة في هذا الخبر على ما قال هذا القائل ، ولو ثبت أنه تمضمض واستنشق لم يجز أن يزاد في حكم الآية . وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : هو غسل الأعضاء المذكورة في كتاب الله لا يجوز الاعتراض به على الآية في إثبات الزيادة ؛ لأنه غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الواحد . وقد حدثنا بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع أبو ميسرة محمد بن الحسن بن العلاء قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا يحيى بن ميمون بن عطاء قال : حدثنا عن ابن جريج قال : سئلت عطاء عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : عائشة أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فيه ماء فتوضأ وكفأ على يديه مرة وغسل وجهه مرة وغسل ذراعيه مرة ومسح برأسه مرة وغسل قدميه مرة ، وقال : هذا الوضوء الذي افترض الله علينا ، ثم أعاد ذلك فقال : من ضاعف ضاعف الله له ، ثم أعاد الثالثة فقال : هذا وضوءنا معشر الأنبياء ، فمن زاد فقد أساء . فأخبرت بوضوئه من غير مضمضة ولا استنشاق ؛ لأنه قصد بيان المفروض منه ، ولو كان فرضا فيه لفعله .