قوله تعالى : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا : روي عن أنه قال : ما أراه إلا واجبا، وهو قول عطاء . عمرو بن دينار
واعلم أن إيجاب ذلك لا محمل له إلا التوقيف، وإلا فإجبار المالك على إزالة ملكه لا وجه له، ولا يقتضيه أصل الشرع وقياسه، لأن الكتابة بعيدة عن قياس الأصول، وتقتضي الأصول بطلانها، فيشبه أن يكون قوله : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، رخصة في الكتابة رفعا للحرج المتوهم، مثل قوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا .
ومثل قوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله .
وكل ذلك رفع للحرج.
وكذلك، إذا قلنا الأصل امتناع الكتابة، إلا أن الشرع أرخص فيها وجوزها بطريق الرخصة، فمطلق الأمر فيه لا يظهر منه الوجوب.
[ ص: 315 ] ولأن تعليقها بابتغاء العبد مما يدل على أنها غير واجبة، ولو وجبت لوجبت حقا للشرع، غير متعلقة بابتغاء العبد.
والذي يخالف في ذلك وينصر مذهب يقول : إنما احتمل الشرع مخالفة قياس القواعد ابتغاء تحصيل العتق الذي هو حق الله تعالى، والمقصود به تفريغ العبد بحريته لطاعة الله تعالى، بعد أن كان كثيرا من أوقاته لغير حق الله عز وجل. عطاء
وإذا ثبت أن الأمر كذلك، فقد وضع الله تعالى ذريعة لتحصيل هذه المكرمة شرعا بلفظ الوجوب.
فمخالفة قياس الأصول كانت لتعظيم أمر الحرية، فمن أين مبعث الوجوب؟
نعم في قوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا ، و فإذا قضيت الصلاة فانتشروا . كل ذلك لغرض غير غرض الشهادة وغير مقصود الشرع، وهاهنا هذا فيه تحصيل الحرية، فاحتمل فيه ما احتمل من مخالفة قياس الأصول لهذا المعنى، حتى جعل له في الزكاة قسط، ولم يجعل ذلك إلا ليتوصل به إلى الحرية، وأوجب كثير من العلماء فيه التأجيل إرفاقا بالعبد، فكان هذا الإرفاق مقصود الشرع بلفظ الأمر الدال على الوجوب، فما الذي منع من وجوبه؟
يبقى أن يقال : ولو كان واجبا لما توقف على ابتغاء العبد.
قالوا : إذا لم يتمكن العبد، فإجباره على الإضرار بنفسه لا وجه له، وإن كان العبد قادرا على الاكتساب فلا شك في أنه لا يقصر في حق نفسه في سعي الكتابة، فبنى الشرع على الغالب ونظيره أن الشرع أوجب الطهارة [ ص: 316 ] لدخولها في محاسن الأخلاق، وتحقيقا لمقصود النظافة والوضاءة وإحياء لمراسم العبادة، وعلم الشرع أن إيجابها عند تغيير الأكوان يجر حرجا، فوضع مراسم تفي بالمقصود. . كذلك هاهنا.
وهذا الذي ذكروه لا وجه له، فإن الترغيب فيه ليزيل عن القلوب ما فيها من منافاة قياس الأصول، ولو وجبت الكتابة لوجبت لمقصودها، وهو العتق، كالطهارة لما وجبت وجبت للصلاة، والعتق لا يجب بالإجماع، ولا يتحتم بالاتفاق.
وقولهم إنها أوجبت ذريعة فضرب من الهذيان. فإن السيد قادر على استكساب العبد دون الكتابة، فليس يتجدد له بالكتابة حق.
وفيه إزالة ملكه من غير أن يحصل على مقابل له، فهذا تمام ما يستدل به على نفس الوجوب.