ولما ذكر أنه ألزمهم أحكام الكتاب على هذه الهيئة القاهرة الملجئة القاسرة التي هي من أعظم المواثيق عند أهل الأخذ وأنه أكد عليهم المواثيق في كثير من فصول الكتاب، وكان ذلك كله خاصا بهم; أمره أن يذكر لهم أنه ركب لهم في عموم هذا النوع الآدمي من العقول ونصب من الأدلة الموضحة للأمر إيضاح المشهود للشاهد ما لو عذب تاركه والمتهاون به لكان تعذيبه جاريا على المناهج ملائما للعقول، ولكنه لسبق رحمته وغلبة رأفته لم يؤاخذ بذلك حتى ضم إليه الرسل، وأنزل معهم الكتب، وأكثر فيها من المواثيق، وزاد في الكشف والبيان، وإلى ذلك الإشارة باسم الرب، فكأن من عنده علم أشد ملامة من الجاهل، فقال: وإذ أي: واذكر لهم إذ أخذ أي: خلق بقوله وقدرته ربك أي: المحسن [ ص: 152 ] إليك بالتمهيد لرسالتك كما يؤخذ القمل بالمشط من الرأس.
ولما كان السياق لأخذ المواثيق والأخذ بقوة، ذكر أخذ الذرية من أقوى نوعي الآدمي، وهم الذكور فقال: من بني آدم وذكر أنه جعلها من أمتن الأعضاء فقال: من ظهورهم كل واحد من ظهر أبيه ذريتهم إشارة إلى أنه [لما] أكد عليهم المواثيق وشددها لهم [وأمرهم] بالقوة في أمرها، أعطاهم من القوة في التركيب والمزاج ما يكونون به مطيعين لذلك، فهو تكليف بما في الوسع، وجعل لهم عقولا عند من قال: هو على حقيقته كنملة سليمان عليه الصلاة والسلام وأشهدهم على أنفسهم أي: أوضح لهم من البراهين من الإنعام بالعقول مع خلق السماوات والأرض وما فيهما على هذا المنوال الشاهد له بالوحدانية وتمام العلم والقدرة، ومن إرسال الرسل المؤيدين بالمعجزات ما كانوا كالشهود بأنه لا رب غيره; [وقد ذكر معنى هذا الإمام حجة الإسلام في الكلام على العقل من باب العلم من الإحياء؛ فإنه قال: معنى هذه الآية والمراد إقرار نفوسهم، لا إقرار الألسنة، فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث [ ص: 153 ] وجدت الألسنة والأشخاص; ثم ذكر أن النفوس فطرت على معرفة الأشياء على ما هي عليه لقرب الاستعداد للإدراك]. الغزالي
ولما تبين أنه فرد لا شريك له فلا راد لأمره، وأنه رب فلا أرأف منه ولا أرحم، كان ذلك أدعى إلى طاعته خوفا من سطوته ورجاء لرحمته، فكانوا بذلك بمنزلة من سئل عن الحق فأقر به، فلذلك قال: ألست بربكم أي: المحسن إليكم بالخلق والتربية بالرزق وغيره قالوا بلى شهدنا أي: كان علمنا بذلك علما شهوديا، وذلك لأنهم وصلوا بعد البيان إلى حد لا يكون فيه الجواب إلا ذلك فكأنهم قالوه; فهو - والله أعلم [من] وادي قوله تعالى: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها الآية : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون
ولما كان كأنه قيل: لم فعل ذلك؟ قيل: دلالة على أن المتقدم إنما هو على طريق التمثيل يجعل تمكينهم من الاستدلال كالإشهاد، فعله كراهة أن تقولوا يوم القيامة أي: إن لم ينصب لهم الأدلة إنا كنا عن هذا أي: وحدانيتك وربوبيتك غافلين أي: لعدم الأدلة فلذلك أشركنا