فاصدع ؛ [ ص: 91 ] ؛ أي: اجهر بعلو وشدة؛ فارقا بين الحق؛ والباطل؛ بسبب ذلك؛ بما تؤمر ؛ به من القرآن؛ وكتاب مبين؛ وأعرض ؛ أي: إعراض من لا يبالي؛ عن المشركين ؛ بالصفح الجميل عن الأذى؛ ويؤيد أن قوله: "كما"؛ راجع إلى قصة والاجتهاد في الدعاء؛ صالح؛ ومتعلق بها - وإن لم أر من سبقني إليه - ذكر الوصف الذي به تناسبت الآيتان؛ وهو الاقتسام؛ ثم وصف المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين؛ لئلا يظن أنهم الذين تقاسموا في بيات صالح؛ أي: آتينا أولئك الآيات المقتضية للإيمان فما كان منهم إلا التكذيب والتقاسم؛ كما أنزلنا على هؤلاء الآيات؛ فما كان منهم إلا ذلك؛ وإنما عبر في أولئك بـ "آتيناهم"؛ لأن آياتهم الناقة؛ وولدها؛ والبئر؛ وهي معطاة؛ محسوسة؛ لا منزلة معقولة؛ وقال في هؤلاء: "أنزلنا"؛ إشارة إلى أو إلى الجميع؛ وغلب عليها القرآن؛ لأنه أعظمها؛ وإلى أنهم مبطلون في جحدهم؛ وأنه لا ينبغي لهم أن يتداخلهم نوع شك في أنه منزل؛ لأنه أعظم من تلك الآيات؛ مع كونها محسوسات؛ وأما اعتراض ما بينهما من الآيات فمن أعظم أفانين البلاغة؛ فإنه لما أتم قصة القرآن الذي هو أعظم الآيات؛ صالح - عليه السلام -؛ علم أن المتعنتين ربما قالوا: لأي شيء يخلقهم ثم يهلكهم؛ مع علمه بعدم [ ص: 92 ] إجابتهم؟ فرد عليهم بأنه وأن الساعة لآتية؛ فيعلم ذلك كله بالعيان من يشك فيه الآن؛ وذلك حين يكشف الغطاء عن البصائر؛ والأبصار؛ فاصفح عنهم؛ فإنه لا بد من الأخذ لك بحقك؛ إن لم يكن في الدنيا ففي يوم الجمع؛ ثم أكد التصرف بالحكمة بقوله: ما خلق السماوات والأرض وما بينهما؛ من هؤلاء المعاندين؛ ومن أفعالهم؛ وعذابهم؛ وغير ذلك؛ إلا بالحق؛ إن ربك هو الخلاق العليم؛ ثم سلاه عما يضيقون به صدره من التكذيب بالساعة؛ وأن الوعد بها إنما هو سحر؛ ونحو ذلك من القول؛ ومن افتخارهم بأموالهم؛ ونسبته إلى الحاجة إلى المشي بالأسواق؛ بما آتاه من كنوز القرآن؛ وأمره بأن يزيد في التواضع؛ واللين للمؤمنين؛ لتطيب نفوسهم؛ فلا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا؛ وأن ينذر الجميع؛ ويحذرهم من سطوات الله؛ أمثال ما أنزل بالأقدمين؛ ثم عاد إليهم؛ فشبههم بهؤلاء في التكذيب؛ ليعلم أنهم أجدر منهم بالعذاب؛ لأنهم مشبه بهم؛ والمشبه به أعلى من المشبه؛ وذلك لكونهم أشد كفرا؛ لأن نبيهم أعظم؛ وآياته أجل وأكثر؛ وأجلى وأبهر؛ فيكون ذلك [ ص: 93 ] سبب اشتداد حذرهم؛ ولك أن تقول - ولعله أحسن -: إنه (تعالى) لما ذكر أن ثمود سكنوا الأرض سكنى الآمنين.
فأزعجتهم عنها صيحة سلبت أرواحهم؛ وقلبت أشباحهم؛ كما سيكون لأهل الأرض قاطبة بنفخة الصور؛ عند نفوذ المقدور؛ وكان قد قدم ذكر كثير مما في السماوات والأرض من الآيات والعبر؛ بقوله (تعالى) ولقد جعلنا في السماء بروجا ؛ وما بعد ذلك من الجن؛ والإنس؛ وغيرهما؛ مما جعل ذكر اختراعه دليلا على الساعة؛ أتبع ذلك أن سبب خلق ذلك كله وما حواه من الخافقين؛ إنما هو الساعة؛ فقال: "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق"؛ أي: بالأمر الثابت؛ لا بالتمويه والسحر؛ كما أنتم تشاهدون؛ أو بسبب إقامة الحق وإبانته من الباطل إبانة لا شك فيها؛ يوم الجمع الأكبر؛ ومن إقامة الحق تنعيم الطائع وتعذيب العاصي؛ وذلك بعد إتيان الساعة بنفختي الصور؛ وإن الساعة لآتية بالحق أيضا؛ وليست سحرا كما تظنون؛ ولما كان إتيانها لهذا الغرض مما يشفي القلب؛ لإدراك الثأر؛ وهو حق لا بد منه؛ تسبب عنه قوله (تعالى): "فاصفح الصفح الجميل". [ ص: 94 ] ولما كانت النفس بخبر الأعلم أوثق؛ وكان صانع الشيء أعلم به من غيره؛ فكيف إذا كان مع ذلك تام العلم؟ قال الله (تعالى) - معللا لذلك -: إن ربك؛ أي: المحسن إليك؛ وهو الخلاق؛ أي: التام القدرة على الإيجاد والإعدام؛ الفعال لذلك؛ العليم؛ البالغ العلم; ولما ختم بهذين الوصفين بعد تقدم الإخبار عما أوتي أهل الحجر من الآيات؛ وأنه خلق الوجود بالحق؛ لا بالتمويه؛ وكان ذلك موجبا لتوقع الإخبار عما أوتي هذا النبي الكريم منها؛ لإرشاد أمته؛ وكانت الآيات إما أن تكون من قسم الخلق؛ كآية صالح؛ أو من قسم الأمر الذي هو مدار العلم؛ أشار إلى تفضيله - صلى الله عليه وسلم - بفضل آيته؛ فقال - عاطفا على ذلك - ولقد آتيناك؛ أي: إن كنا أتينا صالحا أو غيره آية مضت؛ فلم يبق إلا ذكرها؛ فقد آتيناك سبعا من المثاني؛ وهي الفاتحة؛ التي خصصت بها؛ ثنى فيها البسملة للمبادئ؛ والحمدلة للكمالات؛ والرحمانية والرحيمية فيها للإبداع الأول؛ والمرضي من الأعمال؛ وملك الدنيا المسمى بالربوبية؛ لكونه مستورا؛ وملك يوم الدين؛ وبينهما رحمانية الإيجاد الثاني بالمعاد؛ ورحيمية الثواب للمرضي من الأسباب؛ [ ص: 95 ] والعبادة التي لا تكون إلا مع القدرة والاختيار؛ والاستعانة الناظرة إلى العجز عن كمال الاقتدار؛ والهداية بالهادي والمهدي؛ والضلال في مقابل ذلك بالمضل والضال؛ وفي ذلك أسرار لا تسعها الأفكار؛ تفنى الجبال الرواسي وهي باقية؛ وتزول السماوات والأراضي وهي جديدة؛ إذا اصطف عسكر الفجرة قالت كل آية منها: هل من مبارز؟ وإن رام عدو مطاولة لتحققه بالضعف صاحت لدوام قوتها: إني أناجز؛ فلا يقوم لها قائم؛ ولا يحوم حول حماها حائم؛ ولا يروم خوض بحرها رائم. والقرآن الكريم؛ الجامع لجميع الآيات؛ مع كونه حقا ثابتا؛ لا سحرا وخيالا؛ بل هو آية باقية على وجه الدهر؛ مستمر أمرها؛ دائم تلاوتها وذكرها؛
ولما كانت هذه الآية لصاحبها مغنية؛ ولمن فاز بقبولها معجبة مرضية؛ حسن كل الحسن إتباعها بقوله: "لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم"؛ ولما كان كفرهم بعد بيانها إنما هو عناد؛ قال (تعالى): "ولا تحزن عليهم"؛ ولما كان الغني بها ربما ظن حسن أنفة الغنى؛ عقبه قوله: "واخفض جناحك للمؤمنين"؛ ولما كان ربما ظن أن تلاوتها تغني عن الدعاء؛ لا سيما لمن أعرض؛ نفى ذلك بقوله: "وقل إني أنا النذير [ ص: 96 ] المبين"؛ تحريضا على الاجتهاد في التحذير؛ وتثبيتا للمؤمنين؛ وإرغاما للمعاندين؛ واستجلابا لمن أراد الله إسعاده من الكافرين؛ إعلاما بأن القلوب للمؤمنين بيد الله - سبحانه وتعالى -؛ فلا وثوق مع ذلك بمقبل؛ ولا يأمن عن مدبر.
ولما تم ذلك على هذا النظم الرصين؛ والربط الوثيق المتين؛ التفت الخاطر إلى حال من ينذرهم؛ وكان كفار قريش - في تقسيمهم القول في القرآن؛ واقتسامهم طرق مكة لإشاعة ذلك البهتان؛ تنفيرا لمن أراد الإيمان - أشبه شيء بالمقتسمين على صالح - عليه السلام -؛ قال (تعالى): "كما"؛ أي: آتينا أولئك المقتسمين آياتنا؛ فكانوا عنها معرضين؛ مثلما أنزلنا آياتنا على المقتسمين؛ أي: الذين تقاسموا برغبة كبيرة واجتهاد في ذلك؛ الذين جعلوا القرآن عضين؛ أي: ذا أعضاء؛ أي: أجزاء متفاصلة؛ متباينة؛ مثل أعضاء الجزور إذا قطعت؛ جمع "عضة"؛ مثل "عدة"؛ وأصلها "عضوة"؛ "فوربك لنسألنهم أجمعين"؛ أي: لا يمتنع علينا منهم أحد؛ "عما كانوا يعملون فاصدع"؛ أي: بسبب أمرنا لك بالإنذار؛ وإخبارك أنا نسأل كل واحد عما عمل؛ بما تؤمر وأعرض عن المشركين