ولما كان الكتاب هو الصراط المستقيم المنقذ من الهلاك؛ وكان قولهم هذا صدا عنه؛ فكان - مع كونه ضلالا - إضلالا؛ ومن المعلوم أن من ضل كان عليه إثم ضلاله؛ ومن أضل كان عليه وزر إضلاله؛ هذا ما لا يخفى على ذي عقل صحيح؛ فلما كان هذا بينا؛ وكانوا يدعون أنهم أبصر الناس بالخفيات؛ فكيف بالجليات؛ حسن جدا قوله: ليحملوا ؛ فإنهم يعلمون أن هذا لازم لهم قطعا؛ وإن قالوا بألسنتهم غيره؛ أو يقال: إنه قيل ذلك لأنه - مع أن الجهل أولى لهم منه - أخف أحوالهم؛ لأنهم إما أن يعلموا أنهم فعلوا بهذا الطعن ما ليس لهم؛ أو لا؛ فعلى الثاني هم أجهل الناس؛ وعلى الأول فإما أن يكونوا ظنوا أنهم يؤخذون به؛ أو لا؛ فعلى الثاني يكون الخلق سدى؛ وليس هو من الحكمة في شيء؛ فمعتقد هذا من الجهل بمكان عظيم؛ وعلى الأول فهم يشاهدون كثيرا من الظلمة لا يجازون في الدنيا؛ فيلزمهم في الحكمة اعتقاد الآخرة؛ ليجازى بها المحسن والمسيء؛ وهذا أخف الأحوال المتقدمة؛ ولا يخفى ما في الإقدام [ ص: 137 ] على مثله من الغباوة المناقضة لادعائهم أنهم أبصر الناس؛ فقد آل الأمر إلى التهكم بهم؛ لأنهم نسبوا إلى علم؛ الجهل خير منه؛ أوزارهم ؛ التي باشروها؛ لنكوبهم عن الحق تكبرا؛ لا عن شبهة.
ولما كان الله من فضله يكفر عن أهل الإيمان صغائرهم بالطاعات؛ وباجتناب الكبائر؛ فكان التكفير مشروطا بالإيمان؛ وكان هؤلاء قد كفروا بالتكذيب بالكتاب؛ قال (تعالى): كاملة ؛ لا ينقص منها وزر شيء مما أسروا؛ ولا مما أعلنوا؛ لخفاء؛ ولا ذهول بتكفير؛ ولا غيره؛ من دون خلل في وصف من الأوصاف؛ فهو أبلغ من "تامة"؛ لأن التمام قد يكون في العدة مع خلل في بعض الوصف؛ يوم القيامة ؛ الذي لا شك فيه؛ ولا محيص عن إتيانه؛ " و " ؛ ليحملوا؛ " من " ؛ مثل؛ أوزار ؛ الجهلة الضعفاء؛ الذين يضلونهم ؛ فيضلون بهم؛ كما بين أولئك الذين ضلوا؛ بغير علم ؛ يحملون من أوزارهم من غير أن يباشروها؛ لما لهم فيها من التسبب؛ من غير أن ينقص من أوزار الضالين بهم شيء؛ وإن كانوا جهلة؛ لأن لهم عقولا هي بحيث تهدي إلى سؤال أهل الذكر؛ وفطرا أولى تنفر من الباطل؛ أول ما يعرض عليها؛ فضيعوها; ثم استأنف التنبيه [ ص: 138 ] على عظيم ما يحصل لهم من مرتكبهم من الضرر؛ وعيدا لهم؛ فقال (تعالى): ألا ساء ما يزرون ؛ فأدخل همزة الإنكار على حرف النفي؛ فصار إثباتا على أبلغ وجه.