ولما قدم الفاتن؛ والمفتون؛ أتبع ذلك ذكر حكمهما؛ على القراءتين؛ فقال (تعالى) - بحرف التراخي؛ إشارة إلى تقاصر رتبتهما عن رتبة من لم يفعل ذلك -: ثم إن ربك ؛ أي: المحسن إليك بالعفو عن أمتك؛ وتخفيف الآصار عنهم في قبول توبة من ارتد بلسانه؛ أو قلبه؛ للذين هاجروا ؛ أهل الكفر؛ بالنزوح من بلادهم؛ توبة إلى الله (تعالى) مما كانوا فيه.
ولما كان - سبحانه - يقبل اليسير من العمل في أي وقت كان؛ أشار إلى ذلك بالجار؛ فقال (تعالى) - مبينا أن الفتنة بالأذى - وإن كان بالغا - غير قادحة في الهجرة؛ وما تبعها؛ فيفيد ذلك في الهجرة بدونها من باب الأولى؛ من بعد ما فتنوا ؛ بالبناء للمجهول - على قراءة الجماعة -؛ لأن المضر هو الفتنة مطلقا؛ وللفاعل - على قراءة -؛ أي: ظلموا؛ بأن فتنوا من آمن بالله حين كانوا كفارا؛ [ ص: 262 ] أو أعطوا الفتنة من أنفسهم؛ ففتنوها بأن أطاعوا في كلمة الكفر؛ أو في الرجوع مع من ردهم إلى بلاد الكفر بعد الهجرة؛ من بعد إيمانهم؛ ابن عامر ثم جاهدوا ؛ أي: أوقعوا جهاد الكفار؛ مع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - توبة إلى الله (تعالى)؛ وصبروا ؛ على ذلك؛ إلى أن ماتوا عليه؛ إن ربك ؛ أي: المحسن إليك بتسخير من هذه صفاتهم لك.
ولما كان له - سبحانه - أن يغفر الذنوب كلها؛ ما عدا الشرك؛ وأن يعذب عليها كلها؛ وعلى بعضها؛ وأن يقبل الصالح كله؛ وأن يرد بعضه؛ أشار إلى ذلك بالجار؛ فقال (تعالى): من بعدها ؛ أي: هذه الأفعال الصالحة؛ الواقعة بعد تلك الفاسدة؛ وهي الفتنة؛ لغفور ؛ أي: بليغ المحو للذنوب؛ رحيم ؛ أي: بليغ الإكرام فهو يغفر لهم؛ ويرحمهم.