ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالبا؛ نبه (تعالى) على ذلك بالفاء؛ فقال (تعالى): فكفرت ؛ ونبه - سبحانه - على سعة فضله بجمع القلة؛ الدال على أن كثرة فضله عليهم تافهة بالنسبة إلى ما عنده - سبحانه وتعالى - فقال: بأنعم الله ؛ أي: الذي له الكمال كله؛ كما كفرتم؛ فأذاقها الله [ ص: 265 ] أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلما؛ لباس الجوع ؛ بعد رغد العيش؛ والخوف ؛ بعد الأمن؛ والطمأنينة؛ حتى صار لهم ذلك - بشموله لهم - لباسا؛ وبشدة عركهم ذواقا؛ فكأن النظر إلى المستعار له؛ وهو هنا أبلغ؛ لدلالته على الإحاطة؛ والذوق؛ ولو نظر إلى المستعار لقال: فكساها؛ فكان يفوت الذوق؛ وذلك كما نظر إليه كثير؛ في قوله:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف؛ لأنه يصون صون الرداء؛ لما يلقى عليه؛ ووصفه بالغمر؛ الذي هو وصف المعروف والنوال؛ لا وصف الرداء؛ الذي هو المستعار؛ ولو نظر إليه لوصفه بالسعة؛ أو الطول؛ مثلا؛ كما نظر إليه من قال - ذاكرا السيف الذي يصون به الإنسان نفسه -:
ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا بكر بن عمرو
لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر
[ ص: 266 ] فنظر إلى المستعار؛ وهو الرداء؛ في لفظ الاعتجار؛ فبانت فضيحة ابن الراوندي في زندقته؛ إذ قال لابن الأعرابي: هل يذاق اللباس؟ فقال له: لا بأس يا أيها النسناس؛ هب أن محمدا ما كان نبيا؛ أما كان عربيا؟ بما كانوا ؛ أي: بجبلاتهم؛ يصنعون ؛ من الكفر والكبر؛ قد مرنوا عليه بكثرة المداومة؛ مرون الإنسان على صنعته.