ولما كان مدار مادة "شرذم" على التقطع ، فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد ، وذكر أن [ ص: 40 ] في اتباعهم شفاء الغلل ، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل ، فقال : وإنا لجميع أي : أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإياله الملك على قلب واحد.
ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم ، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم ، وفي مضادة لما أشير إليه بـ "قليلون" من الاستضعاف فقال : حاذرون أي : ونحن -مع إجماع قلوبنا- من شأننا وطبعنا الحذر ، فنحن لا نزال على أهبة القتال ، ومقارعة الأبطال ، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره ، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم ، وإدرار الأرزاق فيكم ، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال ، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد ، وجميع ما يحتاج إليه المحارب ، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق ، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم ، ومكرهم لديكم ، فإنه يحكى أنه [كان] يتصرف في خراج مصر بأن يجزئه أربعة أجزاء : أحدها لوزرائه وكتابه وجنده ، [ ص: 41 ] والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور ، والثالث له ولولده ، والرابع يفرق من مدن الكور ، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قواهم به; وروي أنه قصده قوم فقالوا : نحتاج [إلى] أن نحفر خليجا [لنعمر] ضياعنا ، فأذن في ذلك واستعمل عليهم عاملا فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال ، فسأل [عن مبلغ] ما أنفقوه على خليجهم ، فإذا هو مائة ألف دينار ، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها ، فقال : اطرحوها عليهم ، فإن الملك إذا استغنى بمال رعيته افتقر وافتقروا ، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا.