ولما كان السبب المقتضي استمرار الكفر من النصارى المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الخوف ممن فوقهم من ملوك النصرانية نبههم سبحانه وتعالى على أول قصة أسلافهم من بني إسرائيل، وما كانوا فيه من الذل مع آل فرعون، وما كان فيه فرعون من العظمة التي تقسر بها ملوك زمانهم، ثم لما أراد الله سبحانه وتعالى قهر أسلافهم له لم تضرهم ذلتهم ولا قلتهم، ولا نفعته عزته ولا كثرة آله، فلذلك صرح بهم سبحانه وتعالى وطوى ذكر من قبلهم فقال: كدأب أي لم يغن عنهم ذلك شيئا مثل عادة آل فرعون أي الذين اشتهر لديكم استكبارهم وعظمتهم وفخارهم، قال [ ص: 259 ] الدأب العادة الدائمة التي تتأبد بالتزامها، وآل الرجل من إذ أحصر تراءى فيهم فكأنه لم يغب; وفرعون اسم ملك الحرالي: مصر في الكفر، ومصر أرض جامعة كليتها وجملة، إقليمها نازل منزلة الأرض كلها، فلها إحاطة بوجه ما، فلذلك أعظم شأنها في القرآن وشأن العالي فيها من الفراعنة، وكان الرسول المبعوث إليه أول المؤمنين بما وراء أول الخلق من طليعة ظهور الحق لسماع كلامه بلا واسطة ملك، فكان أول من طوى في رتبة نبوته رتبة النبوة ذات الواسطة، فلذلك بدئ به في هذا الخطاب لعلو رتبة نبوته بما هو كليم الله ومصطفاه على الناس، ولحق به من تقدمهم بما وقعت في نبوته من واسطة زوج أو ملك، وخص آله لأنه هو كان عارفا بأمر الله سبحانه وتعالى فكان جاحدا لا مكذبا انتهى.
والذين ولما كان المكذبون إنما هم بعض المتقدمين أدخل الجار فقال: من قبلهم وقد نقلت إليكم أخبارهم وقوتهم واستظهارهم فكأنه قيل: ماذا كانت عادتهم؟ فقيل: كذبوا ولما كان التكذيب موجبا للعقوبة [ ص: 260 ] كان مظهر العظمة به أليق، فصرف القول إليه فقال: بآياتنا السورية والصورية مع ما لها من العظمة بما لها من إضافتها إلينا فأخذهم ولما أفحشوا في التكذيب عدل إلى أعظم من مظهر العظمة تهويلا لأخذهم فقال: الله فأظهر الاسم الشريف تنبيها على باهر العظمة بذنوبهم أي من التكذيب وغيره. قال فيه إشعار بأن الحرالي: وأن المؤاخذة الدنيوية لا تصل إلى حد الانتقام على التكذيب، فكان ما ظهر من أمر الدنيا يقع عقابا على ما ظهر من الأعمال، وما بطن من أمر الآخرة يستوفي العقاب على ما أصرت عليه الضمائر من التكذيب، ولذلك يكون عقاب الدنيا طهرة للمؤمن لصفاء باطنه من التكذيب، ويكون واقع يوم الدنيا كفاف ما جرى على ظاهره من المخالفة فكأن صريح المؤاخذة مناط بالذنوب، من استغراقه لظاهره وباطنه، وأظهر الاسم الشريف ولم يضمر للتنبيه على زيادة العظمة في عذابهم لمزيد اجترائهم فقال: الذنب من المؤمن يقع في دنياه خاصة، والذنب من الكافر يقع في دنياه وأخراه والله أي الحال أن الملك الذي لا كفؤ له في جبروته ولا شيء من نعوته شديد العقاب لا يعجزه شيء.