وأفصح بذلك إفصاحا جليا في قوله: ذرية بعضها من بعض أي فهم كلهم من بني آدم، لا مزية لبعضهم على بعض في ذلك، لا مزية في شيء من ذلك، وأنتم لا تشكون فيه من شيء من الخصائص مما دون أمد عيسى عليه الصلاة والسلام، فما لكم لما لم تردوا ما لم تعرفوا منه إلى ما تعرفون من الخوارق حتى انجلى لكم واتضح لديكم؟ بل أشكل عليكم وقامت فيكم قيامتكم بما يفضي إلى الشك في قدرة الإله الذي لا تشكون أن من شك في تمام قدرته كفر. [ ص: 346 ] وقال خص سبحانه وتعالى آل عمران من بين العالمين بخرق العادة فيهم بإخراج ولد من أنثى فقط من غير ذكر فإثبات هذه الجملة بتشابه وتماثل تتعالى عن نحوه الإلهية، فأبان هذا الخطاب في الحرالي: عيسى عليه الصلاة والسلام اصطفاء من جملة هذا الاصطفاء، فكما لم يقع فيمن سواه لبس من أمر الإلهية فكذلك ينبغي أن لا يقع فيه هو أيضا لبس لمن يتلقن بيان الإحكام والتشابه من الذي أنزل الكتاب محكما ومتشابها وأظهر الخلق باديا وملتبسا انتهى. وقد عاد سبحانه وتعالى بهذا الخطاب على أحسن وجه إلى قصة عيسى عليه الصلاة والسلام الذي نزلت هذه الآيات كلها في المجادلة في أمره والإخبار عن حمله وولادته وغير ذلك من صفاته التي يتنزه الإله عنها، وكراماته التي لا تكون إلا للقرب، فأخبر أولا عن حال أمه وأمها وأختها وما اتفق لهن من الخوارق التي تمسك بوقوع مثلها من عيسى عليه السلام من كفر برفعه فوق طوره، ثم شرع في قص أمره حتى لم يدع فيه لبسا بوجه.
وقال في التعبير عن اصطفاء الحرالي: إبراهيم ومن بعده عليهم الصلاة والسلام في إشعار الخطاب اختصاص إبراهيم عليه الصلاة والسلام [ ص: 347 ] بما هو أخص من هذا الاصطفاء من حيث انتظم في سلكه آله لاختصاصه هو بالخلة التي لم يشركه فيها أهل هذا الاصطفاء، فاختص نمط هذا الاصطفاء بآله، وهم - والله سبحانه وتعالى أعلم - إسحاق ويعقوب والعيص عليهم الصلاة والسلام ومن هو منهم من ذريتهم لأن إسماعيل عليه السلام اختص بالوصلة بين إبراهيم الخليل ومحمد الحبيب صلوات الله وسلامه عليهم، فكان مترقى ما هو لهم من وراء هذا الاصطفاء، ولأن إنزال هذا الخطاب لخلق عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو من ولد داود عليه الصلاة والسلام فيما يذكر، وداود من سبط لاوي بن إسرائيل عليهم الصلاة والسلام فيما ينسب، فلذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - جرى هذا الاصطفاء على آله، فظهر من مزية هذا الاصطفاء لآله ما كان من اصطفاء موسى عليه السلام بالتكليم وإنزال الكتاب السابق
يا موسى إني اصطفيتك على الناس فكان هذا الاصطفاء استخلاص صفاوة من صفاوة نوح عليه الصلاة والسلام المستخلصين من صفاوة آدم عليه الصلاة والسلام، وآل عمران - والله سبحانه وتعالى أعلم - مريم وعيسى عليهما الصلاة والسلام ليقع الاصطفاء في نمط يتصل من آدم إلى عيسى عليهما الصلاة [ ص: 348 ] والسلام ليحوزوا طرفي الكون روحا وسلالة، و (العالمون) علم الله الذي له الملك، فكما أن الملك لا بد له من علم يعلم به بدوه وظهوره جعل الله ما أبداه من خلقه علما على ظهور ملكه بين يدي ظهور خلقه في غاية يوم الدين عاما، وفي يوم الدنيا لمن شاء من أهل اليقين والعيان خاصا، وأعلى معناه بما ظهر في لفظه من الألف الزائدة على لفظ العلم، فاصطفى سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام على الموجودين في وقته، وكذلك نوحا وآل إبراهيم وآل عمران كلا على عالم زمانه، ومن هو بعد في غيب لم تبد صورته في العالم العياني لم يلحقه بعد عند أهل النظر اسم العالم وأشار سبحانه وتعالى بذكر الذرية من معنى الذرء الذي هو مخصوص بالخلق ليظهر انتظام عيسى عليه الصلاة والسلام في سلك الجميع ذرءا، وأنه لا يكون مع الذرء لبس الإلهية، لأن فكان نصب لفظ الذرية تكييفا لهذا الاصطفاء المستخلص على وجه الذر، وهو الذي يسميه النحاة حالا. انتهى. الله سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد،
ولما ذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الذين اصطفاهم، وكان مدار [ ص: 349 ] أمر الاصطفاء على العلم، ومدار ما يقال لهم وفيهم مما يكون كفرا أو إيمانا على السمع ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله عاطفا على ما تقديره: فالله سبحانه وتعالى يفعل بإحاطته ما يريد: والله أي المحيط قدرة وعلما سميع عليم إشارة إلى أنه اصطفاهم على تمام العلم بهم ترغيبا في أحوالهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم.