ولما أتم الدين بذكر الأصول الثلاثة : المبدأ والمعاد والنبوة ، ومقدمات القيامة وأحوالها ، [وبعض صفتها وما يكون من أهوالها] ، وذلك كمال ما يتعلق بأصول الدين على وجوه مرغبة أتم ترغيب ، مرهبة أعظم ترهيب ، أوجب هذا الترغيب والترهيب لكل سامع أن يقول : فما الذي نعمل [ومن نعبد]؟ فأجابه المخاطب بهذا الوحي. المأمور بإبلاغ هذه الجوامع ، الداعي لمن سمعه ، الهادي لمن اتبعه ، بأنه لا يرضى له ما رضي لنفسه ، وهو ما أمره به ربه ، فقال : إنما أمرت [أي : بأمر من لا يرد له أمر] ، ولا يبعد أن يكون بدلا من قوله : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فيكون محله نصبا بقل ، [ ص: 227 ] [وعظم المأمور به بإحلاله محل العمدة فقال] : أن أعبد أي : بجميع ما أمركم به رب أي : موجب ومدبر وملك; وعين المراد وشخصه [وقربه] تشريفا وتكريما بقوله : هذه البلدة أي : مكة التي تخرج الدابة منها فيفزع كل من يراها ، ثم تؤمن أهل السعادة ، أخصه بذلك لا أعبد شيئا مما عدلتموه به سبحانه وادعيتم أنهم شركاء ، وهم من جملة ما خلق; ثم وصف المعبود الذي ما أمر بعبادة أحد غيره بما يقتضيه وصف الربوبية ، وتعين البلدة التي أشار إليها بأداة القرب لحضورها في الأذهان لعظمتها وشدة الإلف بها وإرادتها بالأرض التي تخرج الدابة منها ، فصارت لذلك بحيث إذا أطلقت البلدة انصرفت إليها وعرف أنها مكة ، فقال : الذي حرمها تذكيرا لهم بنعمته سبحانه عليهم وتربيته لهم بأن أسكنهم خير بلاده ، وجعلهم بذلك مهابة في قلوب عباده ، بما ألقى في القلوب من أنها حرم ، [لا يسفك بها دم ، ] ولا يظلم أحد ، ولا يباح بها صيد ، ولا يعضد شجرها ، وخصها بذلك من بين سائر بلاده والناس يتخطفون من حولهم وهم آمنون لا ينالهم شيء من فزعهم وهولهم. [ ص: 228 ] ولما كانت إضافتها إليه إنما هي لمحض التشريف ، قال احتراسا عما لعله يتوهم : وله كل شيء أي : من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقا وملكا وملكا ، وليس هو كالملوك الذين ليس لهم إلا ما حموه على غيرهم.
ولما كانوا ربما قالوا : ونحن نعبده بعبادة من نرجوه يقربنا إليه زلفى ، عين الدين الذي تكون به العبادة فقال : وأمرت أي : مع ، [وعظم المفعول المأمور به بجعله عمدة الكلام بوضعه موضع الفاعل فقال] : الأمر بالعبادة له وحده أن أكون أي : كونا هو في غاية الرسوخ من المسلمين أي : المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتم انقياد ، ثابتا على ذلك غاية الثبات.