[ ص: 356 ] ولما أخبر بدعائها أخبر بإجابتها فيه فقال: فتقبلها فجاء بصيغة التفعل مطابقة لقولها فتقبل ففيه إشعار بتدرج وتطور وتكثر، كأنه يشعر بأنها مزيد لها في كل طور تتطور إليه، من حيث لم يكن فاقبل مني فلم تكن إجابته " فقبلها " ، فيكون إعطاء واحدا منقطعا عن التواصل والتتابع، فلا تزال بركة تحريرها متجددا لها في نفسها وعائدا بركته على أمها حتى تترقى إلى العلو المحمدي فيتكون في أزواجه ومن يتصل به. انتهى.
وجاء بالوصف المشعر بالإحسان مضافا إليها إبلاغا في المعنى فقال: ربها قال وظهر سر الإجابة في قوله سبحانه وتعالى: الحرالي: بقبول حسن حيث لم يكن "بتقبل" - جريا على الأول.
ولما أنبأ القبول عن معنى ما أوليته باطنا أنبأ الإنبات عما أوليته ظاهرا في جسمانيتها، وفي ذكر الفعل من "أفعل" في قوله: [ ص: 357 ] وأنبتها والاسم من "فعل" في قوله: نباتا حسنا إعلام بكمال الأمرين من إمدادها في النمو الذي هو غيب عن العيون وكمالها في ذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين، فكمل في الإنباء والوقوع حسن التأثير وحسن الأثر، فأعرب عن إنباتها ونباتها معنى حسنا. انتهى. فوقع الجواب لأنها عناية من الله سبحانه وتعالى بها على ما وقع سؤالها فيه، فلقد ضل وافترى من قذفها وبهتها، وكفر وغلا من ادعى في ولدها من الإطراء ما ادعى.
وقال وقد أنبأ سبحانه وتعالى في هذه السورة الخاصة الحرالي: مريم عليها الصلاة والسلام من تقبلها وإنباتها وحسن سيرتها بما نفى اللبس في أمرها وأمر ولدها، لأن المخصوص بمنزل هذه السورة ما هو في بيان رفع اللبس الذي ضل به النصارى، فيذكر في كل سورة ما هو الأليق والأولى بمخصوص منزلها، فلذلك ينقص الخطاب في القصة الواحدة في سورة ما يستوفيه في سورة أخرى لاختلاف مخصوص منزلها، كذلك الحال في القصص المتكررة في القرآن من قصص الأنبياء وما ذكر فيه لمقصد الترغيب والتثبيت والتحذير وغير ذلك من وجوه التنبيه - انتهى، وفيه تصرف. [ ص: 358 ] ولما كان الصغير لا بد له فيما جرت به العادة من كبير يتولى أمره قال: بقصة وكفلها قال من الكفل وهو حياطة الشيء من جميع جهاته حتى يصير عليه كالفلك الدائر الحرالي: زكريا وفي قراءة التشديد إنباء بأن الله سبحانه وتعالى هو في الحقيقة كفيلها بما هو تقبلها، وفيه استخلاص لزكريا من حيث جعله يد وكالة له فيها. انتهى.
ولما كان من شأن الكفيل القيام بما يعجز عنه المكفول بين سبحانه وتعالى أن تلك الكفالة إنما كانت جريا على العوائد وأنه تبين أن تقبل الله لها أغناها عن سواه فقال في جواب من لعله يقول: ما فعل في كفالتها؟ : كلما أي كان كلما دخل عليها زكريا المحراب أي موضع العبادة. وقال هو صدر البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة وجهد حرب الحرالي: وجد عندها رزقا وذلك كما وجد عند خبيب بن عدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه قطف العنب - كما سيأتي في آخر المائدة، ومثل ذلك كثير في هذه الأمة، وفي هذه العبارة أي من أولها إلاحة لمعنى حسن كفالته [ ص: 359 ] وأنه كان يتفقدها عند تقدير حاجتها إلى الطعام بما تفيده كلمة كلما من التكرار، فيجد الكفيل الحق قد عاجلها برزق من غيب بما هو سبحانه وتعالى المتولي لإنباتها ليكون نباتها من غيب رزقه فتصلح لنفخ روحه ومستودع كلمته، ولا يلحقها بعد الإعاذة ما فيه مس من الشيطان الرجيم الذي أعاذها الله سبحانه وتعالى منه بكثرة الاختلاط في موجودات الأرزاق، فكان من حفظها أن تولى الله سبحانه وتعالى أرزاقها من غيب إلا ما يطيبه من باد، وليكون حسن نباتها من أحسن رزق الله سبحانه وتعالى كما يقال: من غذي بطعام قوم غذي بقلوبهم ومن غذي بقلوبهم آل إلى منقلبهم، وكانت هي مثل ما كفلها كافلها ظاهرا كفلته باطنا حين أبدى الله سبحانه وتعالى له من أمره ما لم يكن قبل بدا له، فكان لمريم عليها الصلاة والسلام توطئة في رزقها لما يكون كماله في حملها فيكون رزقها بالكلمة ابتداء ليكون حملها بالكلمة، فعند ذلك طلب زكريا عليه السلام نحو ما عاين لها من أن يرزقه الولد في غير إبانه كما رزق مريم الرزق في غير أوانه، وفي [ ص: 360 ] تعيين محلها بالمحراب ما يليح معنى ما ذكر من رجوليتها باطنا من حيث إن محل النساء أن يتأخرن فأبدى الله سبحانه وتعالى في محلها ذكر المحراب إشارة بكمالها، والمحراب صدر البيت المتخذ للعبادة، وفي لزومها لمحرابها في وقت تناول الرزق إعلام بأن الحبيس والمعتكف بيته محرابه ومحرابه بيته، بخلاف من له متسع في الأرض ومحل من غير بيت الله، إنما فهو محلهم في صلاتهم ومحلهم في تناول أرزاقهم، ففيه إشعار بحضورها، وحضور أهل العكوف حضور سواء في صلاتهم وطعامهم، ولذلك أنمى حال العبد عند ربه بما هو عليه في حال تناول طعامه وشرابه، فأهل الله سواء محياهم ومماتهم وأكلهم وصلاتهم، من غفل عند طعامه قلبه لم يستطع أن يحضر في صلاته قلبه، ومن حضر عند طعامه قلبه لم يغب في صلاته قلبه، وفي ذكر الرزق شائعا إشعار بأنها أنواع من أرزاق من حيث إنه لو اختص يخص به ما هو أخص من هذا الاسم. انتهى. المساجد بيوت أهل الله المنقطعين إليه،
ولما كان كأنه قيل: فما كان يقول لها إذا رأى ذلك؟ قيل: [ ص: 361 ] كان كلما وجد ذلك، أو: لما تكرر وجدانه لذلك قال يا مريم أنى أي من أين لك هذا قال كلمة أنى تشعر باستغرابه وجود ذلك الرزق من وجوه مختلفة: من جهة الزمان أنه ليس زمانه، ومن جهة المكان أنه ليس مكانه، ومن جهة الكيف ووصوله إليها أنه ليس حاله، وفي ذكر الضمير في قوله: الحرالي: قالت هو من عند الله إيذان بنظرها إلى مجموع حقيقة ذلك الرزق لا إلى أعيانه، فهو إنباء عن رؤية قلب، لا عن نظر عين لأن هو كلمة إضمار جامعة لكل ما تفصلت صوره مما اتحد مضمره، ولما لم يكن من معهود ما أظهرته حكمته سبحانه مما يجريه على معالجات أيدي الخلق قالت من عند الله ذي الجلال والإكرام، لأن ما خرج من معهود معالجة الحكمة فهو من عنده، وما كان مستغربا فيما هو من عنده فهو من لدنه، فهي ثلاث رتب: رتبة لدنية، ورتبة عندية، ورتبة حكمية عادية; فكان هذا وسط الثلاث - كما قال تعالى:
آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما حيث كان مستغربا عند أهل الخصوص كما قال: أخرقتها لتغرق [ ص: 362 ] أهلها لقد جئت شيئا إمرا والإمر العجب، ولعلو رتبته عن الرتبة العادية جرى النبأ عنه مضافا إلى الاسم العظيم الذي هو مسمى الأسماء كلها من حيث لم يكن " من عند ربي " لما في ذكر اسم الربوبية من إشعار بمادة أو قريب منها أو ما كان من نحوها كما قال هذا من فضل ربي لما كان من عادته المكنة على الملوك، وكان ممكنا فيما أحاط به موجود الأركان الأربعة. انتهى.
ولما أخبرت بخرقه سبحانه وتعالى لها العادة عللت ذلك بقولها مؤكدة تنبيها على أن ذلك ليس في قدرة ملوك الدنيا: إن الله أي الذي له الإحاطة الكلية. قال في تجديد الاسم العظيم في النبأ إشعار باتساع النبأ وإيذان وإلاحة بأن ذلك يكون لك ولمن شاء الله كما هو لي بما شاء الله، من حيث لم يكن أنه فيكون مليحا لاختصاص ما بها، ويؤيده عموم قولها: الحرالي: يرزق من يشاء وقولها: بغير حساب يشعر بأنه عطاء متصل، فلا يتحدد ولا يتعدد، فهو رزق لا متعقب عليه، لأن كل محسوب في الإبداء [ ص: 363 ] محاسب عليه في الإعادة، فكان في الرزق بغير حساب من علاج الحكمة بشرى برفع الحساب عنهم في المعاد وكفالة بالشكر عنه، لأن إنما يشكر رزق الله من أخذه من الله سبحانه وتعالى. انتهى. أعظم الشكر لرزق الله سبحانه وتعالى معرفة العبد بأنه من الله تعالى،