ولما كان التقدير في الرد على هذا الكلام الواهي : ألم نحمك ومن اتبعك منهم وقد جئتموهم من الخلاف بمثل ما يخالفون هم به العرب أو أشد ، ولا نسبة لكم إلى عددهم ولا جلدهم ، عطف عليه قوله : أولم نمكن أي : غاية التمكين لهم في أوطانهم ومحل سكناهم بما لنا من القدرة حرما آمنا أي : ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها ، حتى أن سيل الحل لا يدخل الحرم ، بل إذا وصل إليه عدل عنه; قال في استيلاء ابن هشام كنانة وخزاعة على البيت : وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا ، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته - انتهى.
وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يعرض له بسوء; وروى [الأزرقي] في تاريخ مكة بسنده عن حويطب بن عبد العزى رضي الله عنه قال : كانت في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد ، فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده ، [ ص: 321 ] فلقد رأيته في الإسلام [وإنه] لأشل .
وروي عن قصة ابن جريج العرب من غير قريش في أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثيابا ، فجاءت امرأة فطافت عريانة وكان لها جمال فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها ، فأدنى عضده من عضدها ، فالتزقت عضده بعضدها ، فخرجا من المسجد هاربين على وجوههما فزعين لما أصابهما من العقوبة ، فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب ، فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا ، فدعوا وأخلصا النية ، فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية .
وبسنده عن رضي الله عنهما قال : أخذ رجل ذود ابن عم له فأصابه في ابن عباس الحرم فقال : ذودي : فقال اللص : كذبت ، قال : فاحلف ، فحلف عند المقام ، فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطا يديه يدعو ، فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة : ما لي ، وللزود ، ما لي ، ولفلان رب الزود ، فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الزود فدفعه إلى المظلوم ، فخرج به وبقي الآخر متولها حتى وقع من جبل فتردى فأكلته السباع .
وعن أيوب بن موسى أن امرأة في الجاهلية كان معها ابن عم لها صغير فقالت له : يا بني : إني [ ص: 322 ] أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد ، فإن جاءك ظالم بعدي فإن لله بمكة بيتا لا يشبهه شيء من البيوت ، وعليه ثياب ولا يقاربه مفسد ، فإن ظلمك ظالم يوما فعذ به ، فإن له ربا سيمنعك ، فجاءه رجل فذهب به فاسترقه ، قال : وكان أهل الجاهلية يعمرون أنعامهم فأعمر سيده ظهره ، فلما رأى الغلام البيت عرف الصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت ، وجاءه سيده فمد يده إليه ليأخذه ، فيبست يده ، فمد الأخرى فيبست ، [فاستفتى] فأفتى أن ينحر عن كل واحدة من يديه بدنة ، ففعل فأطلقت يداه ، وترك الغلام وخلى سبيله .
وعن أن قوما انتهوا إلى عبد العزيز بن أبي رواد ذي طوى ، فإذا ظبي قد دنا منهم ، فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه : ويحك! أرسله ، فجعل يضحك ويأبى أن يرسله ، فبعر الظبي وبال; ثم أرسله ، فناموا في القائلة فانتبهوا ، فإذا بحية منطوية على بطن الرجل الذي أخذ الظبي ، فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحديث مثل ما كان من الظبي .
وعن قال : دخل قوم مجاهد مكة تجارا من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام ، فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم [ ص: 323 ] وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوا [لحمها] ليأتدموا به ، فبينما قدرهم على النار تغلي بلحمة إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعا ولم تحترق ثيابهم ولا أمتعتهم ولا السمرات التي كانوا تحتها .
وفي سيرة أبي ربيع بن سالم الكلاعي أن رجلا من كنانة بن هذيل ظلم ابن عم له فخوفه بالدعاء في الحرم ، فقال : هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء ، فجاء الحرم في الشهر الحرام ، فقال : اللهم إني أدعوك جاهدا مضطرا على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له ، ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق ، فما زال ينتفخ حتى انشق .
وأن رضي الله عنه سأل رجلا من عمر بني سليم عن ذهاب بصره ، فقال : يا أمير المؤمنين ! كنا بني ضبعاء عشرة ، وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه فكان يذكرنا بالله ، وبالرحم ، فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه يقول :
لا هم أدعوك دعاء جاهدا اقتل بني الضبعاء إلا واحدا [ ص: 324 ] ثم اضرب الرجل ودعه قاعدا
أعمى إذا قيد يعيي القائدا
قال : فمات إخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد ، وبقيت أنا فعميت ، ورماني الله عز وجل في رجلي ، فليس يلائمني قائد ، فقال رضي الله عنه : [سبحان الله إن هذا لهو العجب] . عمر
جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ، لينتكب الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة ، فلما جاء الدين ، صار الموعد الساعة ، ويستجيب الله لمن يشاء ، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين - انتهى.
وكأنه لمثل ذلك عبر بالتمكين ويتخطف الناس من حولهم كما يأتي تأكيده في التي بعدها ، وقد كان قبل ذلك بقعة من بقاع الأرض لا مزية له على غيره بنوع مزية ، فالتقدير : إنما فعلنا ذلك بعد سكنى إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، توطئة لما أردنا من الحكم والأحكام ، أو ليس الذي قدر على ذلك وفعله لمن يعبد غيره بقادر على حماية من يدخل في دينه ، وقد صار من حزبه بأنواع الحمايات ، وإعلائه على كل من يناويه إلى أعلى الدرجات ، كما فعل في حمايتكم منهم ومن غيرهم من سائر المخالفين أعداء الدين.
ولما وصفه بالأمن ، أتبعه ما تطلبه النفس بعده فقال : يجبى أي : يجمع ويجلب مما لا يرجونه ولا قدرة لهم على استجلابه إليه [ ص: 325 ] أي : خاصة ، دون غيره من جزيرة العرب ثمرات كل شيء من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والموز والنبق ، والباردة كالعنب والتفاح والرمان والخوخ ، وفي تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال ، ما لم يخطر لأحد منهم في بال ، وقد صدق الله فيما قال كما تراه ومن أصدق من الله قيلا.
ولما كان الحرم من الأمن بأسبابه من الإسراع بإصابة من آذى فيه بأنواع العقوبات ، وجباية هذه الثمرات ، في غاية الغرابة في تلك الأراضي اليابسة الشديدة الحر ، المحفوفة من الناس بمن لا يدين دينا ، ولا يخشى عاقبة ، ولا له ملك قاهر من الناس يرده ، ولا نظام من سياسة العباد يمنعه ، عبر عنه سبحانه مع مظهر العظمة بلدن فقال : مجموع ما رزقهم في هذا رزقا من لدنا أي : من أبطن ما عندنا وأغربه ، لا صنع لأحد فيه كما تعلم ذلك أنت ومن اتبعك ومن فيه قابلية الهداية منهم ، وكل ذلك إنما هو لأجلك [بحلولك] في [هذا] الحرم مضمرا في الأصلاب ، ومظهرا في تلك الشعاب ، توطئة لنبوتك ، وتمهيدا لرسالتك ، ومتى غبت عنهم غاب عنهم ذلك كله وسينظرون.
[ ص: 326 ] ولما كان هذا الذي أبدوه عذرا عن تخلفهم عن الهدى يظنونه من نفائس العلم ، رده تعالى نافيا عمن لم يؤمن منهم جميع [العلم] الذي بنفيه ينتفي أن يكون هذا الفرد علما ، فقال في أسلوب التأكيد لذلك : ولكن أكثرهم أي : أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له لا يعلمون أي : حتى تمكن ذلك وتم فلا قدرة لأحد على تغييره ، وإنا قادرون على أن نمنعهم - إذا تابعوا أمرنا - ممن يريدهم ، بل نسلطهم على كل من ناواهم ، كقدرتنا على ما مكنا لهم وهو خارج عن القياس على ما يقتضيه عقول الناس ، وإنا قادرون على سلب ذلك كله عنهم لإصرارهم على الكفر ، ولا بد أن نذيقهم ذلك أجمع بعد هجرتك ليعلموا أنه إنما نالهم ذلك ببركتك ، ولو علموا ذلك لشكروا ، ولكنهم جهلوا فكفروا ، ولذلك أنذروا ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بترتيب أسبابه ولتعلمن نبأه بعد حين