وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
ولما كانت الظلمة عدما والنور وجودا والعدم مقدم قال: الليل والنهار أي الدالان باختلافهما وهيئتهما على قدرته على [ ص: 192 ] البعث وعلى كل مقدور والشمس والقمر اللذان هما الليل والنهار كالروح لذوي الأجساد، وهذه الموجودات - مع ما مضى من خلق الخافقين - كتاب الملك الديان، إلى الإنس والجان، المشهود لهم بالعيان كما قيل يا إنسان:
تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطة ... إلا كل شيء ما خلا الله باطل
ولما ثبت له سبحانه التفرد بالخلق والأمر، وكان باطنا إلا من نور الله أو كانت الشمس والقمر من آياته المعرفة المشيرة في وجود الدنيا والآخرة إليه، وكانا مشاهدين، وكان الإنسان قاصر العقل مقيد الوهم بالمشاهدات لما عنده من الشواغل إلا من عصم الله، أنتج قوله محذرا من عبادتهما لما يرى لهما من البهاء وفيهما من المنافع: لا تسجدوا للشمس التي هي أعظم أوثانكم فإنها من جملة مبدعاته، وأعاد النافي تأكيدا للنفي وإفادة لأن النهي عن كل منهما على حدته ولذلك أظهر موضع الإضمار فقال: ولا للقمر كذلك.
ولما نهى عن السجود لهما، أمر بالسجود بما يبين استحقاقه لذلك [ ص: 193 ] وعدم استحقاقهما أو استحقاق شيء غيرهما له فقال: واسجدوا ونبه على مزيد عظمته بالإظهار موضع الإضمار فقال: لله أي الذي له كل كمال من غير شائبة نقص من أقول أو تجدد حلول الذي خلقهن أي الأربعة لأجلكم فهو الذي يستحق الإلهية، وأنث لأن ما لا يعقل حكمه حكم المؤنث في الضمير وهي أيضا آيات، وفيه إشارة إلى تناهي سفولها عما أهلوها له وذم عابديها بالإفراط في الغباوة، ويمكن أن يكون عد القمر أقمارا لأنه يكون تارة هلالا وأخرى بدرا وأخرى محوا، فلذلك جمع إشارة إلى قهرهما بالتغيير له في الجرم ولمهما بالتسيير، ولذلك عبر بضمير المؤنث الذي يكون لجمع الكثرة مما لا يعقل.
ولما ظهر أن الكل عبيده، وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبدا آخر في عبادة سيده قال: إن كنتم إياه أي خاصة بغاية الرسوخ تعبدون كما هو صريح قولكم في لا سيما في البحر، ومحصل قولكم الدعاء في وقت الشدائد ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فإن أشركتم به شيئا بسجود أو غيره فما خصصتموه بالعبادة لأن السجود [ ص: 194 ] من العبادة وفعله ولو في وقت واحد لغيره إشراك في الجملة، ومن أشرك به لم يعبده وحده، ومن لم يعبده وحده لم يعبده أصلا، لأنه أغنى الأغنياء، لا يقبل إلا الخالص وهو أقرب إلى عباده من كل شيء فيوشك أن ينتقم بإشراككم، وفي الآية إشارة إلى رفعا لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجودا لهم، فإنه سبحانه أمر الملائكة الذين هم أشرف خلقه بعدهم بالسجود الحث على صيانة الآدميين عن أن يقع منهم سجود لغيره آدم وهم في ظهره فتكبر اللعين إبليس، فابد لعنه، فشتان ما بين المقامين.