ولما كان التقدير مما ينطق به نص الخطاب: هذه أوامرنا الشريفة وتقديساتنا العظيمة وتفضلاتنا الكريمة العميمة، فما لهم إذا نودي [لها] توانى بعضهم في الإقبال إليها، وكان قلبه متوجها نحو البيع ونحوه من الأمور الدنيوية عاكفا [عليها] ساعيا بجهده إليها فخالف قوله أنه أسلم لرب العالمين فعله هذا، عطف عليه قوله: وإذا رأوا أي بعد [ ص: 69 ] الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح، والاشتغال بشأنها العالي تجارة أي حمولا هي موضع للتجارة. ولما ذكر ما من شأنه إقامة المعاش أتبعه ما هو أنزل منه وهو ما أقل شؤونه البطالة التي [لا] يجنح إليها ذو قدر ولا يلقي لها باله فقال: أو لهوا أي ما يلهي عن كل نافع . ولما كان مطلق الانفضاض قبيحا لأنه لا يكون إلا تقربا على حال سيئ، من الفض وهو الكسر بالتفرقة، والفضاض ما تفرق من الفم والطلع: كسرهما، فكيف إذا كانت علته قبيحة، قال تعالى معبرا به: انفضوا أي نفروا متفرقين من العجلة.
ولما كان فقد [سبب] نزول الآية أنه كان أصاب الناس جوع وجهد، رحمه الله تعالى بعيرا تحمل الميرة، وكان في عرفهم أن يدخلوا في مثل ذلك بالطبل والمعازف والصياح، وكان قصد بعض المنفضين العير، وبعضهم ما قارنها من اللهو، ولكن قاصد التجارة [هو] الكثر، أنث الضمير فقال معلما بالاهتمام بها لأن اللهو مسبب عنها: دحية الكلبي إليها وللدلالة على أنه إذا ذم قاصدها مع ما فيها [من النفع] والإنسان لا بد له من إصلاح معاشه لقيام [حاله] [ ص: 70 ] ولا سيما والحاجة إذ ذاك شديدة، كان الذم لقصد اللهو من باب الأولى.
ولما كان ذلك حال الخطبة التي هي جديرة بشدة الإصغاء إليها والاتعاظ بها في صرف النفس عن الدنيا والإقبال على الآخرة قال: وتركوك أي تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلا، قال رضي الله عنه: أنا أحدهم، ودل على مشروعية القيام بقوله: جابر قائما فالواجب هذه الثلاثة واجبة في الخطبتين معا، ويجب أن خطبتان: قائما يفصل بينهما بجلوس، والواجب فيهما أن يحمد الله تعالى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله تعالى، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لم تصح الخطبة عند يقرأ في الأولى آية من القرآن وفي الثانية أن يدعو للمؤمنين، رضي الله عنه، الشافعي [الوقت] وهو وقت الظهر، والعدد وهو الأربعون، والإمام [والخطبة] ودار الإقامة، فإن فقد شرط وجبت الظهر، ولا تبتدأ الخطبة إلا بعد تمام، وبقاء هذا العدد شرط إلى آخر الصلاة، فإن انفض بعضهم ثم عاد ولم يفته شيء من الأركان صحت. ولجواز الجمعة خمس شرائط:
ولما كان هذا فعل من سفلت همته عن سماع كلام الحق من الحق، أمره صلى الله عليه وسلم بوعظهم إلهابا لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم [ ص: 71 ] للخطاب ولو بالعتاب قال: قل أي لهم ترغيبا في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه: ما عند الله أي من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبوادر الحقيقة، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر، المفيد لتزكية الباطن وتقويم الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مما [لا] يدخل تحت الوصف المحيط بجميع صفات الكمال خير ولما قدم التجارة أولا اهتماما بها، قدم هنا ما كانت سببا له ليصير كل منهما مقصودا بالنهي فقال: من اللهو ولما بدأ به لإقبال الأغلب في حال الرفاهية عليه قال معيدا الجار للتأكيد: ومن التجارة أي وإن عظمت.
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة وإذا أعطاه لا يعطيه إلا من يحبه قال: والله أي ذو الجلال والإكرام وحده خير الرازقين لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زادا إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحدا، أقبل [ ص: 72 ] على ما شرعه شيئا كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من وشرع ما [هو] خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن، روى صاحب الفردوس عن أحل البيع وأمر به رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنس بن مالك من قال يوم الجمعة "اللهم أغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك" سبعين مرة لم تمر به جمعتان حتى يغنيه الله تعالى " وأصل الحديث أخرجه أحمد - وقال حسن - عن والترمذي رضي الله عنه ، وفي الباب عن علي رضي الله عنهما، فأقبلوا على متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم والزموا هديه واستمسكوا بغرزه تنالوا خيري الدارين بسهولة، فقد رجع آخر السورة كما ترى على أولها بما هو [من] شأن الملك من الرزق وإنالة الأرباح والفوائد ولا سيما إذا كان قدوسا وتبكيت من أعرض عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللازم منه استمرار الإقبال عليه ودوام الإقامة بين يديه، لأنه لا يدعوهم إلا لما يحييهم من الصلاة والوعظ الذي [هو] عين تنزيه الله وتسبيحه ابن عباس يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة يزكيهم ربهم ويرزقهم من فضله إنه كريم وهاب - والله أعلم بالصواب.