ولما أخبر سبحانه وتعالى عن بديع هذا الخلق، ونبه على بعض [ ص: 230 ] دقائقه وأمر بالإبصار وتكريره، وكان السامع أول ما يصوب نظره إلى السماء لشرفها وغريب صنعها وبديع وضعها ومنيع رفعها، فكان بحيث يتوقع الإخبار عن هذه الزينة التي رصعت بها، قال في جواب [ من -] توقعه مؤكدا بالقسم إعلاما بأنه ينبغي أن يبعد العاقل عن إنكار شيء مما ينسب إلى صاحب هذا الخلق من الكمال، [ عاطفا -] على ما تقديره: لقد كفى هذا القدر في الدلالة على عظمة مبدع هذا الصنع وتمام قدرته: ولقد واستجلب الشكر بجلب المسار فقال ناظرا إلى مقام العظمة صرفا للعقول عما اقتضاه "الرحمن" من عموم الرحمة تذكيرا بما في الآية الماضية، وتنبيها على ما في الزينة بالنجوم من مزجها بالرجوم الذي هو عذاب "الجن المتمردين الطاغين" : زينا دلالة أخرى تدل على العظمة بعد تلك الدلالة الأولى السماء الدنيا أي أدنى السماوات إلى الأرض وهي التي تشهد وأنتم دائما تشاهدونها وهي سقف الدار التي اجتمعتم فيها في هذه الحياة الدنيا بمصابيح أي نجوم متقدة عظيمة جدا، كثرتها تفوت الحصر، ظاهرة سائرة مضيئة زاهرة. وهي الكواكب التي تنور الأرض بالليل إنارة السرج التي تزينون بها سقوف دوركم، فتفيد من ضوء الصباح، والتزيين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيها فوقها [ من السماوات -] وهي تتراءى لنا بحسب الشفوف [ ص: 231 ] بما للجرام السماوية من الصفاء، ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة. شعبة
ولما أخبر - جلت قدرته - بعظيم قدرته فيها منبها على ما فيها من جلب المسار بتلك الأنوار والهداية في الدين والدنيا التي لولا هي لما انتفع أحد في ليل انتفاعا تاما، أخبر بما فيها مع الزينة من دفع المضار بعبارة عامة وإن كان المراد البعض الأغلب فإن ما للرجوم منها غير ما للاهتداء والرسوم فقال: وجعلناها أي النجوم من حيث [ هي -] بعظمتنا مع كونها زينة وأعلاما للهداية رجوما جمع رجم وهو مصدر واسم لما يرجم به للشياطين الذين يستحقون الطرد والبعد والحرق من الجن لما لهم من الاحتراق، وذلك بيانا لعظمتنا وحراسة للسماء الدنيا التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر، وإنزال هذا الذكر الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع منها على الناس دينهم الحق، ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي ختمنا به الأديان بالباطل، فيخرجوهم - لأنهم أعداؤهم - من النور إلى الظلمات [ كما -] كانوا في الجاهلية مع ما فيها بما خلق سبحانه في أمزجتها من ترطيب وتجفيف وحر وبرد واعتدال ينشأ عنه الفصول الأربعة وقهرها به من شروق وغروب وحركة وسكون يعرف بها ما إليه المآل، مما أخبرت به الرسل من الزوال، مع ما يدل من الليل والنهار والعشي [ ص: 232 ] والإبكار وأشياء يكل عنها الوصف في ذواتها وعن إحصاء منافعها حتى لو عدم شيء مما في السماوات مما دبره الحكيم لصلاح هذا العالم يهلك كل حيوان ونبات على وجه الأرض، والشهاب المرجوم به منفصل من نار الكواكب وهو قار في فلكه على حالة كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية على حالها لا نقص، وذلك مسوغ لتسميتها بالرجوم، فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله، ويحتمل مع ذلك أن يكون المراد: ظنونا لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجما بالغيب في أشياء هي من عظيم الابتلاء ليتبين الموقن من المزلزل والعالم من الجاهل; وفي : قال البخاري : "خلقت النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف بما لا علم له به" ولما كان التقدير: ورجمناهم بها بالفعل عند استراقهم للسمع إبعادا لهم عن مسكن المكرمين ومحل النزاهة والأنس ومهبط القضاء والتقدير، ونكالا لغيرهم من أمثالهم عذابا لهم في الدنيا، عطف عليه قوله ترهيبا من جلاله بعد ما رغب في عظيم جماله: قتادة وأعتدنا أي هيأنا في الآخرة مع هذا [ ص: 233 ] الذي في الدنيا بما لنا من العظمة لهم أي الشياطين الذين يسترقون السمع عذاب السعير أي [ النار -] التي هي في غاية الاتقاد، ففي الآية بشارة أهل السمع والبصر والعقل وفيها من التنبيه ما لا يخفى.