ولما أوقع سبحانه الإخبار بهلاكه على هذا الوجه المؤكد لما كان لصاحب القصة وغيره من الكفار من التكذيب بلسان حاله وقاله لما له من المال والولد، وما هو فيه من القوة بالعدد والعدد، زاد الأمر تحققا إعلاما بأن الأحوال الدنيوية لا غناء لها فقال مخبرا، أو مستفهما منكرا ما أغنى أي أجزى وناب وسد عنه أي عن أبي لهب الشقي الطريد المبعود عن الرحمة مع العذاب ماله أي الكثير الذي جرت العادة بأنه ينجي من الهلاك.
ولما كان الكسب أعم من المال، وكان المال قد يكسب منافع هي أعظم منه من الجاه وغيره، وكان الإنسان قد يكون فائزا ولا مال له بأمور أثلها بسعيه خارجة عن المال، قال مفيدا لذلك مبينا أنه لا ينفع إلا ما أمر الله به وما كسب أي وإن كان ذلك على وجه هائل من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يرضيها باتباع [ ص: 336 ] النبي صلى الله عليه وسلم في المحافل يؤذيه ويكذبه وينهى الناس عن تصديقه مع أنه كان قبل ذلك يناديه بالصادق الأمين، وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم " " فكان اللهم سلط عليه كلبا من كلابك أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة لا بد أن تدركه، فلما حان الأمر وكان قد آن ما أراد صاحب العز الشامخ، سبب له أن سافر إلى الشام فأوصى به أبوه الرفاق لينجوه رغم من هذه الدعوة، فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم، والحمول محيطة به وهم محيطون بها والركاب محيطة بهم، فلم ينفعه ذلك بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه ولم ينفع أباه ذلك، بل استمر على ضلاله لما سبق في علم الله تعالى حتى كانت وقعة بدر فلم يخرج، فيها فلما جاء الفلال كان منهم ابن أخيه فقال: هلم يا ابن أخي فعندك الخبر: فقال نعم! فوالله ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يفتلوننا كيف شاءوا [ويأسروننا كيف شاءوا -]، ومع ذلك والله مللت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا [أي -] ما تبقيه - [ ص: 337 ] ولا يقوم لها شيء، قال أبو سفيان بن الحارث غلام أبو رافع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكان جالسا في حجرة في المسجد يبري نبلا، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وكنا نكتم إسلامنا، فما ملكت نفسي أن قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل - يعني سيدته زوجة رضي الله عنها إلى عمود الحجرة - أي الخيمة - فضربته [به -] ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة وقالت: استضعفته أي عدو الله إن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال أو ستا حتى رماه الله بالعدسة فقتله وما نفعه إبعاده عن الخطر بتخلفه عن بدر، والعدسة بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل غالبا، قال العباس القزاز : كانت تعدي في الجاهلية قلما يسلم منها أحد، تقول: عدس الرجل فهو معدوس، كما تقول: طعن فهو مطعون - إذا أصابه الطاعون - انتهى.
ولأجل تشاؤم العرب بها ترك أبو لهب من غير دفن ثلاثا [ ص: 338 ] حتى أنتن، ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه، ويقال: إنهم حفروا له حفرة بعيدة عنه من شدة نتنه ثم دفعوه بخشب طوال حتى رموه فيها ورجموه بالحجارة والتراب من بعيد حتى طموه، فكان ذلك سنة في رجمه فهو يرجم إلى الآن، وذلك من أول إعجاز هذه الآيات أن كان سبة في العرب [دون أن -] يغني عنه شيء [مما يظن أنه يغني عنه -].