أمر بالتعوذ برب هذا الدين، موافقة لإياك نعبد وإياك نستعين، من [ ص: 407 ] شر ما يقدح فيه بضرر في الظاهر أو في الباطن وهم الخلائق حتى على الفنا في الغنا، وبدأ بما يعم شياطين الإنس والجن في الظاهر والباطن، ثم اتبع بما يعم القبيلين ويخص الباطن الذي يستلزم صلاحه صلاح الظاهر، إعلاما بشرف الباطن على وجه لا يخل بالظاهر، وفي ذلك إشارة إلى الحث على معاودة القراءة من أول القرآن كما يشير إليه قوله تعالى: فإذا قرأت القرآن - أي أردت قراءته - فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم فقال تعالى: قل أي لكل من يبلغه القول من جميع الخلائق تعليما لهم وأمرا، فإنهم كلهم مربوبون مقهورون لا نجاة لهم في شيء من الضرر إلا بعصمته سبحانه وتعالى، فعلى كل منهم أن يفزع أول ما تصيبه المصيبة إلى مولاه القادر على كشفها تصحيحا لتوكله فإنه يرتقي بذلك إلى حال الرضا بمر القضاء، ولا يأخذ في الاعتماد على جلادته وتدبيره بحوله وقوته فإنه يشتد أسفه ولا يرد ذلك عنه شيئا: أعوذ [أي -] أستجير وألتجئ وأعتصم وأحترز.
ولما كان هذا المعنى أليق شيء بصفة الربوبية لأن الإعاذة من المضار أعظم تربية قال: برب الفلق أي الذي يربيه وينشئ منه ما يريد، وهو الشيء المفلوق بإيجاده ظلمة العدم كالعيون التي فلقت بها ظلمة [ ص: 408 ] الأرض والجبال، وكالأمطار التي فلقت بها ظلمة الجو والسحاب، وكالنبات الذي فلقت به ظلمة الصعيد، وكالأولاد التي فلقت بها ظلمة الأحشاء، وكالصبح الذي فلقت به ظلمة الليل، وما كان من الوحشة إلى ما حصل من ذلك من الطمأنينة والسكون والأنس والسرور إلى غير ذلك من سائر المخلوقات، قال الملوي : والفلق - بالسكون والحركة كل شيء انشق عنه ظلمة العدم وأوجد من الكائنات جميعها - انتهى. وخص في العرف بالصبح فقيل: فلق الصبح، ومنه قوله تعالى: فالق الإصباح لأنه ظاهر في تغير الحال ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفنا والهلاك بالبعث والإحياء، فإن القادر على ما قبله بما نشاهده قادر عليه، لأنه لا فرق، بل البعث أهون في عوائد الناس لأنه إعادة، كذا سائر الممكنات، ومن قدر على ذلك قدر على إعاذة المستعيذ من كل ما يخافه ويخشاه.