ولما كان كل من ظل الغمام ولزوم طعام واحد غير مألوف [ ص: 391 ] لهم مع كونه نعمة دنيوية وكان المألوف أحب إلى النفوس تلاه بالتذكير بنعمة مألوفة من الاستظلال بالأبنية والأكل مما يشتهى مقرونة بنعمة دينية . وقال : لما ذكر تعالى عظيم فضله عليهم في حال استحقاق عقوبتهم في تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وهو مبتدأ أمر تيههم حين أبوا أن يقاتلوا الجبارين نظم به آخر أمر تيههم بعد وفاة الحرالي موسى وهارون عليهما السلام حين دخولهم مع يوشع عليه السلام وما أمروا به من دخول البلد المقدس متذللين بالسجود الذي هو أخص رتب العبادة وكمال عمل العامل ودنو من الحق . انتهى . فقال تعالى وإذ قلنا أي لكم ادخلوا هذه القرية إشارة إلى نعمة النصر . قال : الدخول الولوج في الشيء بالكلية حسا بالجسم ومعنى بالنظر والرأي ، والقرية من القرى وهو الجمع للمصالح التي بها يحصل قوام الدنيا لقرى أهل الدنيا والتي تجمع مصالح أهل الآخرة ، لقرى أهل الآخرة ، قال عليه السلام : " الحرالي " باستيطانها كأنها تستقري القرى تجمعها [ ص: 392 ] إليها ، وقد تناوبت الياء والهمزة والواو مع القاف والراء على عام هذا المعنى . انتهى . وناسب سياق النعم الدلالة على تعقيب نعمة الدخول بالفاء في قوله : أمرت بقرية تأكل القرى فكلوا منها حيث شئتم وأتم النعمة بقوله رغدا موسعا عليكم طيبا . قال : وفيه أي هذا الخطاب تثنية في ذكر الأرض لما تقدم من نحوه الحرالي لآدم في السماء ، فكان تبديلهم لذلك عن فسق لا عن نسيان كما كان أمر آدم عليه السلام ، فكأنهم اقتطعوا عن سنته إلى حال الشيطان الذي كان من الجن ففسق عن أمر ربه ، فتحقق ظلمهم حين لم يشبهوا آباءهم وأشبهوا عدو أبيهم . انتهى . وأمرهم بالشكر على نعم النصر والإيواء وإدرار الرزق بأمر يسير [ ص: 393 ] من القول والفعل ، وقدم الدخول السار للنفوس والسجود الذي هو أقرب مقرب للحضرة الشريفة لأنه في سياق عد النعم على القول المشعر بالذنب فقال وادخلوا الباب وهو كما قال أول مستفتح الأشياء [ ص: 394 ] والأمور المستغلقة حسا أو معنى حال كونكم الحرالي سجدا وقولوا جامعين إلى ندم القلب وخضوع الجوارح الاستغفار باللسان ، ولما كان القول تحكى به الجمل فتكون مفعولا بها ويعمل في المفرد إذا كان مصدرا أو صفة لمصدر كقلت حقا أو معبرا به عن جملة كقلت شعرا وما كان على غير هذا كان إسنادا لفظيا لا فائدة [ فيه ] غير مجرد الامتثال رفع قوله حطة أي عظيمة لذنوبنا .
قال الكشاف : والأصل النصب أي حط عنا ذنوبنا إلا أنه رفع ليعطي معنى الثبات . قال : من الحط وهو [ ص: 395 ] وضع الحمل الثقيل بمنة وجمام قوة يكون في الجسم ، والمعنى أمروا بقول ما يحط عنهم ذنوبهم التي عوقتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من معه من الحرالي المهاجرين والأنصار بشعب من الشعاب مترددا بين الحرمين الشريفين - يعني في عمرة الحديبية - فقال : قولوا : " لا إله إلا الله " - وعند ذلك دخول الشعب الذي هو باب المدخل من نجد الأرض إلى سهلها - فقالوها ، فقال : " " . انتهى . وعبر بنون العظمة في قوله والذي نفسي بيده ! إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل أن يقولوها فبدلوها نغفر لكم إشارة إلى أنه ، وفي قراءة من قرأ بالتحتانية والفوقانية مبنيا للمجهول إشارة إلى تحقير الذنوب إذا أراد غفرانها بحيث إنه بأدنى أمر وأدق إشارة بمحوها وهي أقل من أن يباشرها بنفسه المقدسة ، كل ذلك استعطاف إلى التوبة . والغفر [ ص: 396 ] قال لا يتعاظمه ذنب وإن عظم كاتخاذ العجل إذا جب بالتوبة : ستر الذنب أن يظهر منه أثر على المذنب لا عقوبة ولا ذكر ، ثم قال : ففي قراءة " نغفر " تول من الحق ومن هو من حزبه من الملائكة والرسل ، وفي قراءة : " تغفر " إبلاغ أمر خطابهم بما يفهمه التأنيث من نزول القدر ، وفي قراءة الياء توسط بين طرفي ما يفهمه علو قراءة النون ونزول قراءة التاء ، ففي ذلك بجملته إشعار بأن خطاياهم كانت في كل رتبة مما يرجع إلى عبادة ربهم وأحوال أنفسهم ومعاملتهم مع غيرهم من أنبيائهم وأمثالهم حتى جمعت خطاياهم جميع جهات الخطايا الثلاث ، فكأنهم ثلاثة أصناف : صنف بدلوا ، وصنف اقتصدوا ، وصنف أحسنوا فيزيدهم الله ما لا يسعه القول و الحرالي هل جزاء الإحسان إلا الإحسان انتهى . ولما كان السياق هنا لتعداد النعم حسن أن يعبر عن ذنوبهم بجمع الكثرة فقال خطاياكم إشارة إلى أنهم أصروا عليها [ ص: 397 ] بحيث كادوا أن يجعلوا بإزاء كل نعمة ذنبا ، والخطايا جمع خطيئة من الخطأ وهو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو ود أن لا يخطئ ، هكذا قال ، والظاهر أن المراد هنا ما كان عن عمد كائنا ما كان ، لأن ذلك أولى بسياق الامتنان والعقوبة بالعصيان . قال في " القاموس " : والخطيئة الذنب أو ما تعمد منه والخطأ ما لم يتعمد ، جمعه خطايا ، وقرئ شاذا : " خطيئاتكم " بالجمع السالم الدال على القلة إشارة إلى أنها وإن تكاثرت فهي في جنب عفوه قليل ، وهذا بخلاف الأعراف فإن السياق هناك لبيان إسراعهم في الكفر كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وناسب عد النعم العطف على ما تقدم منها بقوله : الحرالي وسنـزيد المحسنين أي بعد غفران ذنوبهم . قال : جمع محسن من الإحسان [ ص: 398 ] وهو البلوغ إلى الغاية في حسن العمل ، فيكون مع الخلق رؤية المرء نفسه في غيره فيوصل له من البر ما يجب أن يفعل معه ، ورؤية العبد ربه في عبادته ، فالإحسان فيما بين العبد وربه أن يغيب عن نفسه ويرى ربه ، والإحسان فيما بين العبد وغيره أن يغيب عن غيره ويرى نفسه ، فمن رأى نفسه في حاجة الغير ولم ير نفسه في عبادة الرب فهو محسن ، وذلك بلوغ في الطرفين إلى غاية الحسن في العمل بمنزلة الحسن في الصورة . انتهى . الحرالي