[ ص: 28 ] وقال "إنها معطوفة على "أشربوا" أو على "نبذ فريق"، وهذا ليس بظاهر، لأن عطفها على "نبذ" يقتضي كونها جوابا لقوله: أبو البقاء: "ولما جاءهم رسول" واتباعهم لما تتلو الشياطين ليس مترتبا على مجيء الرسول بل كان اتباعهم لذلك قبله، فالأولى أن تكون معطوفة على جملة لا كما تقدم. و"ما" موصولة، وعائدها محذوف، والتقدير: تتلوه. وقيل: "ما" نافية وهذا غلط فاحش لا يقتضيه نظم الكلام البتة، نقل ذلك ابن العربي. و "يتلو" في معنى تلت فهو مضارع واقع موقع الماضي كقوله:
639 - وإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها
فلقد يكون أخا دم وذبائح
أي: فلقد كان، وقال الكوفيون: الأصل: ما كانت تتلو الشياطين، ولا يريدون بذلك أن صلة "ما" محذوفة، وهي "كانت"، و "تتلو" في موضع الخبر، وإنما قصدوا تفسير المعنى، وهو نظير: "كان زيد يقوم" المعنى على الإخبار بقيامه في الزمن الماضي
وقرأ الحسن "الشياطون" إجراء له مجرى جمع السلامة، قالوا: وهو غلط. وقال بعضهم: لحن فاحش. وحكى والضحاك: "بستان فلان حوله بساتون" وهو يقوي قراءة الأصمعي: الحسن.
قوله: "على ملك سليمان" فيه قولان، أحدهما: أنه على معنى في، أي: في زمن ملكه، والملك هنا شرعه. والثاني: أن يضمن تتلو معنى: [ ص: 29 ] تتقول أي: تتقول على ملك سليمان، وتقول يتعدى بعلى، قال تعالى: "ولو تقول علينا بعض الأقاويل". وهذا الثاني أولى، فإن التجوز في الأفعال أولى من التجوز في الحروف، وهو مذهب البصريين كما مر غير مرة. وإنما أحوج إلى هذين التأويلين لأن تلا إذا تعدى بـ "على" كان المجرور بـ "على" شيئا يصح أن يتلى عليه نحو: تلوت على زيد القرآن، والملك ليس كذلك.
والتلاوة: الاتباع أو القراءة وهو قريب منه. وسليمان علم أعجمي فلذلك لم ينصرف. وقال "وفيه ثلاثة أسباب: العجمة والتعريف والألف والنون" وهذا إنما يثبت بعد دخول الاشتقاق فيه والتصريف حتى تعرف زيادتهما، وقد تقدم أنهما لا يدخلان في الأسماء الأعجمية، وكرر قوله أبو البقاء: "وما كفر سليمان" بذكره ظاهرا تفخيما له وتعظيما كقوله:
640 - لا أرى الموت يسبق الموت شيء . . . . . . .
وقد تقدم تحقيق ذلك.
قوله "ولكن الشياطين كفروا" هذه الواو عاطفة جملة الاستدراك على ما قبلها. وقرأ ابن عامر والكسائي بتخفيف "لكن" ورفع ما بعدها، والباقون بالتشديد والنصب وهو واضح. وأما القراءة الأولى فتكون "لكن" مخففة من الثقيلة جيء بها لمجرد الاستدراك، وإذا خففت لم تعمل عند الجمهور، ونقل جواز ذلك عن وحمزة يونس وهل تكون عاطفة؟ الجمهور [ ص: 30 ] على أنها تكون عاطفة إذا لم يكن معها الواو، وكان ما بعدها مفردا، وذهب يونس إلى أنها لا تكون عاطفة، وهو قوي، فإنه لم يسمع من لسانهم: ما قام زيد لكن عمرو، وإن وجد ذلك في كتب النحويين فمن تمثيلاتهم، ولذلك لم يمثل بها والأخفش. إلا مع الواو وهذا يدل على نفيه. وأما إذا وقعت بعدها الجمل فتارة تقترن بالواو وتارة لا تقترن، قال سيبويه زهير:
641 - إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره لكن وقائعه في الحرب تنتظر
وقال الكسائي "الاختيار تشديدها إذا كان قبلها واو، وتخفيفها إذا لم يكن" وهذا جنوح منهما إلى القول بكونها حرف عطف. وأبعد من زعم أنها مركبة من ثلاث كلمات: "لا" النافية و"كاف" الخطاب و"أن" التي للإثبات وإنما حذفت الهمزة تخفيفا. والفراء:
قوله: "يعلمون الناس السحر" "الناس" مفعول أول، و "السحر" مفعول ثان. واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال، أحدها: أنها حال من فاعل "كفروا"، أي: كفروا معلمين. الثاني: أنها حال من الشياطين، ورده بأن "لكن" لا تعمل في الحال. وليس بشيء فإن "لكن" فيها رائحة الفعل. الثالث: أنها في محل رفع على أنها خبر ثان للشياطين. الرابع: أنها بدل من "كفروا" أبدل الفعل من الفعل. الخامس: أنها استئنافية، أخبر عنهم بذلك، هذا إذا أعدنا الضمير من "يعلمون" على الشياطين، أما إذا أعدناه على "الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين" فتكون حالا من فاعل "اتبعوا"، أو استئنافية [ ص: 31 ] فقط. والسحر: كل ما لطف ودق. سحره: إذا أبدى له أمرا يدق عليه ويخفى. قال: أبو البقاء
642 -. . . . . . . . أداء عراني من حبابك أم سحر
ويقال: سحره: أي خدعه وعلله، قال امرؤ القيس:
643 - أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي: نعلل، وهو في الأصل: مصدر يقال: سحره سحرا، ولم يجيء مصدر لفعل يفعل على فعل إلا سحرا وفعلا.
قوله: "وما أنزل" فيه أربعة أقوال أظهرها أن "ما" موصولة بمعنى الذي محلها النصب عطفا على "السحر"، والتقدير: يعلمون الناس السحر والمنزل على الملكين. الثاني: أنها موصولة أيضا ومحلها النصب لكن عطفا على "ما تتلو الشياطين" والتقدير: واتبعوا ما تتلوا الشياطين وما أنزل على الملكين وعلى هذا فما بينهما اعتراض، ولا حاجة إلى القول بأن في الكلام تقديما وتأخيرا. الثالث: أن محلها الجر عطفا على "ملك سليمان" والتقدير: افتراء على ملك سليمان وافتراء على ما أنزل على الملكين. وقال "تقديره: وعلى عهد الذي أنزل". الرابع: أن "ما" حرف نفي، والجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها، وهي أبو البقاء: "وما كفر سليمان"، والمعنى: وما أنزل على الملكين إباحة السحر.
[ ص: 32 ] والجمهور على فتح لام "الملكين" على أنهما من الملائكة، وقرأ ابن عباس وأبو الأسود بكسرها على أنهما رجلان من الناس، وسيأتي تقرير ذلك. والحسن
قوله "ببابل" متعلق بأنزل، والباء بمعنى "في" أي: في بابل: ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال من الملكين أو من الضمير في"أنزل" فيتعلق بمحذوف، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء.
وبابل لا ينصرف للعجمة والعلمية، فإنها اسم أرض وإن شئت للتأنيث والعلمية، وسميت بذلك قال: لتبلبل ألسنة الخلائق بها، وذلك أن الله تعالى أمر ريحا فحشرتهم بهذه الأرض فلم يدر أحد ما يقول الآخر، ثم فرقتهم الريح في البلاد يتكلم كل أحد بلغة. والبلبلة: التفرقة، وقيل: لما أهبط نوح عليه السلام نزل فبنى قرية وسماها "ثمانين"، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة. وقيل: لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود.
قوله: "هاروت وماروت" الجمهور على فتح تائهما، واختلف النحويون في إعرابهما، وذلك مبني على القراءتين في "الملكين": فمن فتح لام "الملكين" وهم الجمهور كان في هاروت وماروت أربعة أوجه، أظهرها: أنها بدل من "الملكين"، وجر بالفتحة لأنهما لا ينصرفان للعجمة والعلمية. الثاني: أنهما عطف بيان لهما. الثالث: أنهما بدل من "الناس" في قوله: "يعلمون الناس" [ ص: 33 ] وهو بدل بعض من كل، أو لأن أقل الجمع اثنان. الرابع: أنهما بدل من "الشياطين" في قوله: "ولكن الشياطين" في قراءة من نصب، وتوجيه البدل كما تقدم. وقيل: هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن فيكون بدل كل من كل، والفتحة على هذين القولين للنصب. وأما من قرأ برفع "الشياطين" فلا يكون "هاروت وماروت" بدلا منهم، بل يكون منصوبا في هذا القول على الذم، أي: أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها، كقوله:
644 - أقارع عوف لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تجادع
أي: أذم وجوه قرود، ومن كسر لامهما فيكونان بدلا منهما كالقول الأول إلا إذا فسر بداود وسليمان - كما ذكره بعض المفسرين - فلا يكونان بدلا منهما بل يكونان متعلقين بالشياطين على الوجهين السابقين في رفع الشياطين ونصبه، أو يكونان بدلا من "الناس" كما تقدم. وقرأ الحسن: هاروت وماروت برفعهما، وهما خبر لمبتدأ محذوف أي: هما هاروت وماروت، ويجوز أن يكونا بدلا من "الشياطين" الأول، وهو قوله: "ما تتلوا الشياطين" أو الثاني على قراءة من رفعه. ويجمعان على هواريت ومواريت وهوارتة وموارتة،وليس من زعم اشتقاقهما من الهرت والمرت وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما، ولو كانا مشتقين كما ذكر لانصرفا.
قوله: "وما يعلمان من أحد" هذه الجملة عطف على ما قبلها. والجمهور على "يعلمان" مضعفا، واختلف فيه على قولين: أحدهما: أنه على بابه من التعليم. والثاني: أنه بمعنى يعلمان من "أعلم"، فالتضعيف والهمزة [ ص: 34 ] متعاقبان، قالوا: لأن الملكين لا يعلمان الناس السحر، إنما يعلمانهم به وينهيانهم عنه، وإليه ذهب وكان يقرأ: "يعلمان" من الإعلام. وممن حكى أن تعلم بمعنى "اعلم" طلحة بن مصرف، ابن الأعرابي وأنشدوا قول وابن الأنباري زهير:
645 - تعلمن ها لعمر الله ذا قسما فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك
وقول القطامي
646 - تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا
وقول كعب بن مالك:
647 - تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
وقول الآخر:
648 - تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور
والضمير في "يعلمان" فيه قولان، أحدهما: أنه يعود على هاروت وماروت، والثاني: أنه عائد على الملكين، ويؤيده قراءة أبي بإظهار الفاعل: "وما يعلم الملكان"، والأول هو الأصح; وذلك أن الاعتماد إنما هو على البدل دون المبدل منه فإنه في حكم المطرح فمراعاته أولى تقول: "هند [ ص: 35 ] حسنها فاتن" ولا تقول: "فاتنة" مراعاة لهند إلا في قليل من الكلام كقوله:
649 - إن السيوف غدوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب
وقول الآخر:
650 - فكأنه لهق السراة كأنه ما حاجبيه معين بسواد
فراعى المبدل منه في قوله: تركت، وفي قوله: معين، ولو راعى البدل وهو الكثير لقال: تركا ومعينان كقول الآخر:
651 - فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
ولو لم يراع البدل للزم الإخبار بالمعنى عن الجثة. وأجاب الشيخ عن البيتين بأن "رواحها وغدوها" منصوب على الظرف، وأن قوله "معين" خبر عن "حاجبيه" وجاز ذلك لأن كل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر يجوز فيهما ذلك، قال:
[ ص: 36 ]
652 -. . . . . . . . . . . بها العينان تنهل
وقال:
653 - لكأن في العينين حب قرنفل أو سنبل كحلت به فانهلت
ويجوز عكسه، قال:
654 - إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى بصحراء فلج ظلتا تكفان
و "من" زائدة لتأكيد الاستغراق لا للاستغراق، لأن "أحدا" يفيده بخلاف: "ما جاءني من رجل" فإنها زائدة للاستغراق، و "أحد" هنا الظاهر أنه الملازم للنفي وأنه الذي همزته أصل بنفسها. وأجاز أن يكون بمعنى واحد فتكون همزته بدلا من واو. أبو البقاء
قوله: "حتى يقولا إنما نحن فتنة" حتى: حرف غاية وهي هنا بمعنى إلى والفعل بعدها منصوب بإضمار "أن" ولا يجوز إظهارها، وعلامة النصب حذف النون، والتقدير: إلى أن يقولا، وهي متعلقة بقوله: "وما يعلمان" والمعنى أنه ينتفي تعليمهما أو إعلامهما على حسب ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية وهي قولهم: "إنما نحن فتنة فلا تكفر" وأجاز أبو البقاء أن تكون "حتى" بمعنى "إلا" قال: "المعنى وما يعلمان من أحد إلا أن يقولا" وهذا الذي أجازه لا يعرف عن أكثر المتقدمين وإنما هو شيء قاله الشيخ [ ص: 37 ] جمال الدين بن مالك وأنشد:
655 - ليس العطاء من الفضول سماحة حتى تجود وما لديك قليل
قال: "تقديره: إلا أن تجود".
واعلم أن "حتى" تكون حرف جر بمعنى إلى كهذه الآية، وكقوله: "حتى مطلع [الفجر] "، وتكون حرف عطف، وتكون حرف ابتداء فتقع بعدها [الجمل كقوله] :
656 - فما زالت القتلى تمج دماءها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
والغاية معنى لا يفارقها في هذه الأحوال الثلاثة [فلذلك لا يكون ما بعدها] إلا غاية لما قبلها: إما في القوة أو الضعف أو غيرهما، ولها أحكام ستأتي إن شاء الله تعالى. و"إنما" مكفوفة بما الزائدة فلذلك وقع بعدها الجملة، وقد تقدم أن بعضهم يجيز إعمالها، والجملة في محل نصب بالقول، وكذلك: "فلا تكفر" .
قوله: "فيتعلمون" في هذه الجملة سبعة أقوال، أظهرها، أنها معطوفة على قوله: "وما يعلمان" والضمير في "فيتعلمون" عائد على "أحد" . [ ص: 38 ] وجمع حملا على المعنى، نحو قوله: "فما منكم من أحد عنه حاجزين"، فإن قيل: المعطوف عليه منفي فيلزم أن يكون "فيتعلمون" منفيا أيضا لعطفه عليه وحينئذ ينعكس المعنى. فالجواب ما قالوه وهو أن "وما يعلمان من أحد حتى يقولا" وإن كان منفيا لفظا فهو موجب معنى لأن المعنى: يعلمان الناس السحر بعد قولهما: إنما نحن فتنة، وهذا الوجه ذكره وغيره. الزجاج
الثاني: أنه معطوف على "يعلمون الناس السحر" قاله وقد اعترض الزجاج هذا القول بسبب لفظ الجمع في "يعلمون" مع إتيانه بضمير التثنية في "منهما"، يعني فكان حقه أن يقال: "منهم" لأجل "يعلمون"، وأجازه الفراء. وغيره، وقالوا: لا يمتنع عطف "فيتعلمون" على "يعلمون" وإن كان التعليم من الملكين خاصة، والضمير في "منهما" راجع إليهما، فإن قوله "منهما" إنما جاء بعد تقدم ذكر الملكين. وقد اعترض على قول أبو علي من وجه آخر: وهو أنه يلزم منه الإضمار قبل الذكر، وذلك أن الضمير في "منهما" عائد على الملكين وقد فرضتم أن الفراء "فيتعلمون منهما" عطف على "يعلمون" فيكون التقدير: "يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما" فيلزم الإضمار في "منهما" قبل ذكر الملكين، وهو اعتراض واه فإنهما متقدمان لفظا، وتقدير تأخرهما لا يضر، إذ المحذور عود الضمير على غير مذكور في اللفظ.
الثالث: - وهو أحد قولي - أنه عطف على "كفروا"، و "كفروا" فعل في موضع رفع، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع، قال سيبويه "وارتفعت "فيتعلمون" لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر [ ص: 39 ] فيتعلموا ليجعلا كفره سببا لتعلم غيره، ولكنه على: كفروا فيتعلمون"، وشرح ما قاله هو أنه يريد أن ليس "فيتعلمون" جوابا لقوله: سيبويه: "فلا تكفر" فينتصب في جواب النهي كما انتصب: "فيسحتكم" بعد قوله: "لا تفتروا" لأن كفر من نهياه أن يكفر ليس سببا لتعلم من يتعلم. وقد اعترض على هذا بما تقدم من لزوم الإضمار قبل الذكر وتقدم جوابه.
الرابع: وهو القول الثاني - أنه خبر مبتدإ محذوف، والتقدير: "فهم يتعلمون" ، فعطف جملة اسمية على فعلية. لسيبويه
الخامس: قال أيضا: "والأجود أن يكون معطوفا على "يعلمان فيتعلمون"فاستغنى عن ذكر "يعلمان" على ما في الكلام من الدليل عليه". واعترض الزجاج قول أبو علي فقال: "لا وجه لقوله: "استغنى عن ذكر يعلمان" لأنه موجود في النص". وهذا الاعتراض من أبي علي تحامل عليه لسبب وقع بينهما، فإن الزجاج لم يرد أن "فيتعلمون" عطف على "يعلمان" المنفي بـ "ما" في قوله "وما يعلمان" حتى يكون مذكورا في النص، وإنما أراد أن ثم فعلا مضمرا يدل عليه قوة الكلام وهو: يعلمان فيتعلمون. الزجاج
السادس: أنه عطف على معنى ما دل عليه أول الكلام، والتقدير: فيأتون فيتعلمون، ذكره الفراء أيضا. والزجاج
السابع: قال "وقيل هو مستأنف" وهذا يحتمل أن يريد أنه [ ص: 40 ] خبر مبتدإ مضمر كقول أبو البقاء: وأن يكون مستقلا بنفسه غير محمول على شيء قبله وهو ظاهر كلامه. هذا نهاية القول في هذه المسألة، وقد أمعن سيبويه، المهدوي - رحمه الله - فيها فأمتع.
قوله: "منهما" متعلق بـ "يعلمون". و "من" لابتداء الغاية، وفي الضمير ثلاثة أقوال، أظهرها: عوده إلى الملكين، سواء قرئ بكسر اللام أو فتحها.
والثاني: أنه يعود على السحر وعلى المنزل على الملكين، والثالث: أنه يعود على الفتنة وعلى الكفر المفهوم من قوله "فلا تكفر" وهو قول أبي مسلم.
قوله: "ما يفرقون به" الظاهر في "ما" أنها موصولة اسمية، وأجاز أن تكون نكرة موصوفة وليس بواضح، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير في "به" عليها، والمصدرية حرف عند جمهور النحويين كما تقدم غير مرة. أبو البقاء
و "بين المرء" ظرف لـ "يفرقون". والجمهور على فتح ميم "المرء" مهموزا وهي اللغة العالية. وقرأ ابن أبي إسحاق: "المرء" بضم الميم مهموزا، وقرأ الأشهب العقيلي "المرء" بكسر الميم مهموزا. فأما الضم فلغة محكية، وأما الكسر فيحتمل أن يكون لغة مطلقا، ويحتمل أن يكون ذلك للإتباع، وذلك أن في "المرء" لغة، وهي أن فاءه تتبع لامه فإن ضم ضمت وإن فتح فتحت وإن كسر كسرت. تقول: "ما قام المرء" بضم الميم، و "رأيت المرء" بفتحها، و "مررت بالمرء" بكسرها. وقد يجمع بالواو والنون وهو شاذ، قال والحسن: في بعض مواعظه: "أحسنوا ملأكم أيها المرؤون" أي: [ ص: 41 ] أخلاقكم. وقرأ الحسن الحسن "المر" بكسر الميم وكسر الراء خفيفة، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة على الراء وحذف الهمزة تخفيفا، وهو قياس مطرد. وقرأ والزهري: أيضا: "المر" بتشديد الراء من غير همز، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء ثم نوى الوقف عليها مشددا، كما روي عن الزهري "مستطر" بتشديد الراء، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف. عاصم
قوله: "وما هم بضارين به من أحد" يجوز في "ما" وجهان، أحدهما: أن تكون الحجازية فيكون "هم" اسمها، و "بضارين" خبرها، والباء زائدة، فهو في محل نصب، والثاني: أن تكون التميمية، فيكون "هم" مبتدأ، و "بضارين" خبره والباء زائدة أيضا فهو في محل رفع. والضمير فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه عائد على السحرة العائد عليهم ضمير "فيتعلمون". الثاني: يعود على اليهود العائد عليهم ضمير "واتبعوا". الثالث: يعود على الشياطين. والضمير في "به" يعود على "ما" في قوله: "ما يفرقون به".
والجمهور على "بضارين" بإثبات النون و "من أحد" مفعول به، وقرأ "بضاري" من غير نون، وفي توجيه ذلك قولان، أظهرهما: أنه أسقط النون تخفيفا وإن لم يقع اسم الفاعل صلة لأل ومثله قول الشاعر: الأعمش:
657 - ولسنا إذا تأبون سلما بمذعني لكم غير أنا إن نسالم نسالم
أي: بمذعنين، ونظيره في التثنية: "قظا قظا بيضك ثنتا وبيضي مئتا. يريدون: ثنتان ومئتان. والثاني - وبه قال الزمخشري وابن [ ص: 42 ] عطية -: أن النون حذفت للإضافة إلى "أحد" وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور وهو "به" كما فصل به في قول الآخر:
658 - هما أخوا في الحرب من لا أخاله إذا خاف يوما نبوة فدعاهما
وفي قوله:
659 - كما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل
ثم استشكل ذلك فقال: "فإن قلت كيف يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزءا من المجرور"، قال الشيخ: "وهذا التخريج ليس بجيد لأن الفصل بين المتضايفين بالظرف والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك ألا يكون ثم مضاف إليه، لأنه مشغول بعامل جر فهو المؤثر فيه لا الإضافة، وأما جعله حرف الجر جزءا من المجرور فليس بشيء لأن هذا مؤثر فيه وجزء الشيء لا يؤثر فيه" وفي قول الشيخ نظر، أما كون الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال، لأنه قد فصل بالمفعول به في قراءة الزمخشري فبالظرف وشبهه أولى، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام. ابن عامر
[ ص: 43 ] وأما قوله: "لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه" فإنما ذلك في الجزء الحقيقي، وهذا إنما قال: ننزله منزلة الجزء، ويدل على ذلك قول النحويين: الفعل كالجزء من الفاعل ولذلك أنث لتأنيثه، ومع ذلك فهو مؤثر فيه.
و"من" في "من أحد" زائدة لتأكيد الاستغراق كما تقدم في "وما يعلمان من أحد". وينبغي أن يجيء قول إن "أحدا" يجوز أن يكون بمعنى واحد، والمعهود زيادة "من" في المفعول به المعمول لفعل منفي نحو: "ما ضربت من أحد" إلا أنه حملت الجملة الاسمية الداخل عليها حرف النفي على الفعلية المنفية في ذلك لأن المعنى: وما يضرون من أحد، إلا أنه عدل إلى هذه الجملة المصدرة بالمبتدإ المخبر عنه باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار المزيد فيه باء الجر للتوكيد المراد الذي لم تفده الجملة الفعلية. أبي البقاء:
قوله: "إلا بإذن الله" هذا استثناء مفرغ من الأحوال. فهو في محل نصب على الحال فيتعلق بمحذوف، وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه، أحدها: أنه الفاعل المستكن في "بضارين". الثاني: أنه المفعول وهو "أحد" وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النفي. والثالث: أنه الهاء في "به" أي بالسحر، والتقدير: وما يضرون أحدا بالسحر إلا ومعه علم الله أو مقرونا بإذن الله ونحو ذلك. والرابع: أنه المصدر المعرف وهو الضرر، إلا أنه حذف للدلالة عليه.
قوله: "ولا ينفعهم" في هذه الجملة وجهان، أحدهما - وهو الظاهر - أنها عطف على "يضرهم" فتكون صلة لـ"ما" أيضا، فلا محل لها من الإعراب. والثاني - وأجازه أبو البقاء -: أن تكون خبرا لمبتدأ مضمر [ ص: 44 ] تقديره: وهو لا ينفعهم، وعلى هذا فتكون الواو للحال، والجملة من المبتدإ والخبر في محل نصب على الحال، وهذه الحال تكون مؤكدة لأن قوله: "ما يضرهم"، يفهم منه عدم النفع، قال "ولا يصح عطفه على "ما" لأن الفعل لا يعطف على الاسم" وهذا من المواضع المستغنى عن النص على منعها لوضوحها، وإنما ينص على منع شيء يتوهم جوازه. وأتى هنا بـ "لا" لأنها ينفى بها الحال والاستقبال، وإن كان بعضهم خصها بالاستقبال. والضر والنفع معروفان، يقال: ضره يضره بضم الضاد، وهو قياس المضاعف المتعدي، والمصدر: الضر والضر بالضم والفتح، والضرر بالفك أيضا، ويقال: ضاره يضيره بمعناه ضيرا، قال الشاعر: أبو البقاء:
660 - تقول أناس لا يضيرك نأيها بلى كل ما شف النفوس يضيرها
وليس حرف العلة مبدلا من التضعيف، ونقل بعضهم: أنه لا يبنى من "نفع" اسم مفعول فيقال: منفوع، والقياس لا يأباه.
قوله: "ولقد علموا" تقدم أن هذه اللام جواب قسم محذوف. و "علم" يجوز أن تكون متعدية إلى اثنين أو إلى واحد، وعلى كلا التقديرين فهي معلقة عن العمل فيما بعدها لأجل اللام، فالجملة بعدها في محل نصب: إما سادة مسد مفعولين أو مفعول واحد على حسب ما تقدم، ويظهر أثر ذلك في العطف عليها، فإن اعتقدنا تعديها لاثنين عطفنا على الجملة بعدها مفعولين وإلا عطفنا مفعولا واحدا، ونظيره في الكلام: علمت لزيد قائم وعمرا ذاهبا، أو علمت لزيد قائم وذهاب عمرو. والذي يدل على أن الجملة المعلقة بعد "علم" في محل نصب وعطف المنصوب على محلها قول الشاعر:
[ ص: 45 ]
661 - وما كنت أدري قبل عزة ما الهوى ولا موجعات القلب حتى تولت
روي بنصب "موجعات" على أنه عطف على محل "ما الهوى"، وفي البيت كلام، إذ يحتمل أن تكون "ما" زائدة، و "الهوى" مفعول به، فعطف "موجعات" عليه، ويحتمل أن تكون "لا" نافية للجنس و "موجعات" اسمها والخبر محذوف كأنه قال: ولا موجعات القلب عندي حتى تولت.
والضمير في "علموا" فيه خمسة أقوال، أحدها ضمير اليهود الذين بحضرة محمد عليه السلام، أو ضمير من بحضرة سليمان، أو ضمير جميع اليهود أو ضمير الشياطين، أو ضمير الملكين عند من يرى أن الاثنين جمع.
قوله: "لمن اشتراه" في هذه اللام قولان، أحدهما: - وهو الظاهر عند النحويين - أنها لام الابتداء المعلقة لـ "علم" عن العمل كما تقدم، و "من" موصولة في محل رفع بالابتداء، و "اشتراه" صلتها وعائدها. و "ما له في الآخرة من خلاق" جملة من مبتدأ وخبر ومن زائدة في المبتدإ، والتقدير: ما له خلاق في الآخرة. وهذه الجملة في محل رفع خبر لـ "من" الموصولة فالجملة من قوله: "ولقد علموا" مقسم عليها كما تقدم، و "لمن اشتراه" غير مقسم عليها، هذا مذهب سيبويه والجمهور. الثاني - وهو قول الفراء، وتبعه -: أن تكون هذه اللام هي الموطئة للقسم، و "من" شرطية في محل رفع بالابتداء، و "ما له في الآخرة من خلاق" جواب القسم، فـ"اشتراه" على القول الأول صلة وعلى هذا الثاني هو خبر لاسم الشرط. ويكون جواب الشرط محذوفا; لأنه إذا اجتمع شرط وقسم ولم يتقدمهما [ ص: 46 ] ذو خبر أجيب سابقهما غالبا، وقد يجاب الشرط مطلقا كقوله: أبو البقاء
662 - لئن كان ما حدثته اليوم صادقا أصم في نهار القيظ للشمس باديا
ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماض، وقد يكون مضارعا كقوله:
663 - لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي واسع
فعلى قول تكون الجملتان من قوله: الفراء "ولقد علموا لمن اشتراه" مقسما عليهما، ونقل عن الزجاج منع قول فإنه قال: "هذا ليس موضع شرط" ولم يوجه منع ذلك. والذي يظهر في منعه، أن الفعل بعد "من" وهو "اشتراه" ماض لفظا ومعنى فإن الاشتراء قد وقع وانفصل، فجعله شرطا لا يصح; لأن فعل الشرط وإن كان ماضيا لفظا فلا بد أن يكون مستقبلا معنى. الفراء
والخلاق: النصيب، قال الزجاج: "أكثر استعماله في الخير" فأما قوله:
664 - يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلا سرابيل من قطر وأغلال
[ ص: 47 ] فيحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: أنه على سبيل التهكم بهم كقوله:
665 -. . . . . .. . .... .. تحية بينهم ضرب وجيع
والثاني: أنه استثناء منقطع، أي: لكن لهم السرابيل من كذا، والثالث: أنه استعمل في الشر على قلة. والخلاق: القدر قال:
666 - فما لك بيت لدى الشامخات وما لك في غالب من خلاق
أي: من قدر ورتبة، وهو قريب من الأول. والضمير المنصوب في "اشتراه" فيه أربعة أقوال: يعود على السحر أو الكفر أو كيلهم الذي باعوا به السحر أو القرآن لتعويضهم كتب السحر عنه. وقد تقدم الكلام على قوله: "ولبئس ما" وما ذكر الناس فيها. واللام في "لبئسما" جواب قسم محذوف تقديره: والله لبئسما، والمخصوص بالذم محذوف أي: السحر أو الكفر.
قوله: "لو كانوا يعلمون" جواب لو محذوف تقديره: لو كانوا يعلمون ذم ذلك لما باعوا به أنفسهم، وهذا أحسن من تقدير "لو كانوا ينتفعون بعلمهم لامتنعوا من شراء السحر" لأن المقدر كلما كان متصيدا من اللفظ كان أولى. والضمير في "به" يعود على السحر أو الكفر، وفي "يعلمون" يعود على اليهود باتفاق، واعلم أن هنا سؤالا معنويا ذكره أبي البقاء: [ ص: 48 ] وغيره، وهو مترتب على عود الضمير في "علموا" و "يعلمون" ، وذلك أن الزمخشري قال: "فإن قلت: كيف أثبت لهم العلم أولا في "ولقد علموا" على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: "لو كانوا يعلمون"؟ قلت: معناه: لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعلموا به كأنهم منسلخون عنه" وهذا بناء منه على أن الضميرين في "علموا" و "يعلمون" لشيء واحد. وأجاب غيره على هذا التقدير بأن المراد بالعلم الثاني العقل لأن العلم من ثمرته، فلما انتفى الأصل انتفى ثمرته، أو يغاير بين متعلق العلمين أي: علموا ضرره في الآخرة ولم يعلموا نفعه في الدنيا، وأما إذا أعدت الضمير في "علموا" على الشياطين أو على من بحضرة الزمخشري سليمان أو على الملكين فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم حينئذ.