760 - لقوم لعمري قد نرى أمس فيهم مرابط للأمهار والعكر الدثر
وقال "قد نرى" : ربما نرى، ومعناه كثرة الرؤية كقول الشاعر: الزمخشري:
761 - قد أترك القرن مصفرا أنامله كأن أثوابه مجت بفرصاد
قال الشيخ: "وشرحه هذا على التحقيق متضاد، لأنه شرح "قد نرى" بربما نرى، ورب على مذهب المحققين إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه أو لتقليل نظيره: ثم قال: "ومعناه كثرة الرؤية فهو مضاد لمدلول رب على مذهب الجمهور. ثم هذا الذي ادعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ لأنه [ ص: 160 ] لم توضع للكثرة "قد" مع المضارع سواء أريد به المضي أم لا، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية وهو التقلب".
قوله: "في السماء" في متعلق الجار ثلاثة أقوال، أحدها: أنه المصدر وهو "تقلب"، وفي "في" حينئذ وجهان، أحدهما: أنها على بابها من الظرفية، وهو الواضح. والثاني: أنها بمعنى "إلى" أي: إلى السماء، ولا حاجة لذلك، فإن هذا المصدر قد ثبت تعديه بـ "في"، قال تعالى: " [لا يغرنك] تقلب الذين كفروا في البلاد". والثاني من القولين: أنه "نرى" وحينئذ تكون "في" بمعنى "من" أي: قد نرى من السماء، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيز في جهة على سبيل التشريف. والثالث: أنه في محل نصب على الحال من "وجهك" ذكره فيتعلق حينئذ بمحذوف، والمصدر هنا مضاف إلى فاعله، ولا يجوز أن يكون مضافا إلى منصوبه لأن مصدر ذلك التقليب، ولا حاجة إلى حذف مضاف من قوله "وجهك" وهو بصر وجهك لأن ذلك لا يكاد يستعمل، بل ذكر الوجه لأنه أشرف الأعضاء وهو الذي يقلبه السائل في حاجته وقيل: كنى بالوجه عن البصر لأنه محله. أبو البقاء
قوله: "فلنولينك قبلة" الفاء هنا للتسبب وهو واضح، وهذا جواب قسم محذوف، أي: فوالله لنولينك، و "نولي" يتعدى لاثنين: الأول الكاف والثاني "قبلة"، و "ترضاها" الجملة في محل نصب صفة لقبلة، قال الشيخ: "وهذا - يعني "فلنولينك" - يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة تقديره: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها.
[ ص: 161 ] قوله: "فول وجهك شطر المسجد": "ولى" يتعدى لاثنين أحدهما "وجهك" والثاني "شطر" ويجوز أن ينتصب "شطر" على الظرف المكاني فيتعدى الفعل لواحد وهو قول النحاس، ولم يذكر غيره، والأول أوضح، وقد يتعدى إلى ثانيهما بإلى. والشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه، ويكون بمعنى الجهة والنحو، قال: الزمخشري
762 - ألا من مبلغ عني رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقال:
763 - أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم
وقال:
764 - وقد أظلكم من شطر ثغركم هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال ابن أحمر:
765 - تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة ... قد كارب العقد من إيقادها الحقبا
وقال:
[ ص: 162 ]
766 - وأطعن بالرمح شطر الملوك . . . . . . . . .
وقال:
767 - إن العسير بها داء مخامرها وشطرها نظر العينين محسور
كل ذلك بمعنى: نحو وتلقاء. ويقال: شطر: بعد ومنه: الشاطر وهو الشاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله، يقال: شطر شطورا، والشطير: البعيد ومنه منزل شطير، وشطر إليه أي أقبل. وقال "وصار يعبر بالشاطر عن البعيد وجمعه شطر، والشاطر أيضا لمن يتباعد من الحق وجمعه شطار. الراغب:
وقوله: "وحيث ما كنتم" في "حيثما" هنا وجهان، أظهرهما: أنها شرطية، وشرط كونها كذلك زيادة "ما" بعدها خلافا و "كنتم"، في محل جزم بها، و "فولوا" جوابها وتكون هي منصوبة على الظرف بكنتم، فتكون هي عاملة فيه الجزم، وهو عامل فيها النصب نحو: للفراء، "أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" .
واعلم أن "حيث" من الأسماء اللازمة للإضافة فالجملة التي بعدها كان القياس يقتضي أن تكون في محل خفض بها، ولكن منع من ذلك مانع وهو كونها صارت من عوامل الأفعال. قال الشيخ: "وحيث هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة فهي مقتضية للخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال، والإضافة موضحة [ ص: 163 ] لما أضيف، كما أن الصلة موضحة فينافي اسم الشرط; لأن اسم الشرط مبهم، فإذا وصلت بـ "ما" زال منها معنى الإضافة وضمنت معنى الشرط وجوزي بها، وصارت من عوامل الأفعال".
والثاني: أنها ظرف غير مضمن معنى الشرط، والناصب له قوله: "فولوا" قاله وليس بشيء، لأنه متى زيدت عليها "ما" وجب تضمنها معنى الشرط. وأصل ولوا: وليوا، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الياء وضم ما قبله ليجانس الضمير فوزنه فعوا. وقوله: "شطره" فيه القولان، وهما: إما المفعول به وإما الظرفية كما تقدم. أبو البقاء،
قوله: "أنه الحق" يحتمل أن تكون "أن" واسمها وخبرها سادة مسد المفعولين لـ "يعلمون" عند الجمهور، ومسد أحدهما عند والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين، وأن تكون سادة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العرفان. وفي الضمير ثلاثة أقوال، أحدها: يعود على التولي المدلول عليه بقوله: "فولوا". والثاني: على الشطر. والثالث: على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون على هذا التفاتا من خطابه بقوله الأخفش "فلنولينك" إلى الغيبة.
قوله: "من ربهم" متعلق بمحذوف على أنه حال من الحق أي: الحق كائنا من ربهم. وقرئ: "عما يعملون" بالغيبة ردا على الذين أوتوا الكتاب أو ردا على المؤمنين ويكون التفاتا من خطابهم بقوله: "وجوهكم - كنتم". وبالخطاب على رده للمؤمنين وهو الظاهر، أو للذين على الالتفات تحريكا لهم وتنشيطا.
[ ص: 164 ]