752 - كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
ووسط الوادي خير موضع فيه، قال زهير:
753 - هم وسط ترضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وقوله:
754 - وكن من الناس جميعا وسطا ... ... ...
وفرق بعضهم بين وسط بالفتح ووسط بالتسكين، فقال: كل موضع صلح فيه لفظ "بين" يقال بالسكون وإلا فبالتحريك. فتقول: جلست وسط القوم بالسكون. وقال "وسط الشيء ما له طرفان متساويا القدر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، فتقول: وسطه صلب، ووسط بالسكون يقال في الكمية المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو: [ ص: 152 ] "وسط القوم كذا " ، وتحرير القول فيه هو أن المفتوح في الأصل مصدر، ولذلك استوى في الوصف به الواحد وغيره، المؤنث والمذكر، والساكن ظرف والغالب فيه عدم التصرف، وقد جاء متمكنا في قول الراغب: الفرزدق:
755 - أتته بمجلوم كأن جبينه صلاءة ورس وسطها قد تفلقا
روي برفع الطاء والضمير لصلاءة، وبفتحها والضمير للجائية.
قوله: "لتكونوا" يجوز في هذه اللام وجهان، أحدهما: أن تكون لام "كي" فتفيد العلة. والثاني: أن تكون لام الصيرورة، وعلى كلا التقديرين فهي حرف جر، وبعدها أن مضمرة، وهي وما بعدها في محل جر، وأتى بـ "شهداء" جمع شهيد الذي يدل على المبالغة دون شاهدين وشهود جمعي شاهد.
وفي "على" قولان أحدهما: أنها على بابها، وهو الظاهر. والثاني أنها بمعنى اللام، بمعنى: أنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي والدين، كما نقله الرسول عليه السلام، وكذلك القولان في "على" الأخيرة، بمعنى أن الشهادة بمعنى التزكية منه عليه السلام لهم. وإنما قدم متعلق الشهادة آخرا وقدم أولا لوجهين، أحدهما - وهو ما ذكره - أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم، والثاني: أن "شهيدا" أشبه بالفواصل والمقاطع من "عليكم" فكان قوله "شهيدا" تمام الجملة ومقطعها دون "عليكم" . وهذا الوجه قاله [ ص: 153 ] الشيخ مختارا له رادا على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المفعول يشعر بالاختصاص وقد تقدم ذلك. الزمخشري
قوله: "التي كنت عليها" في هذه الآية خمسة أوجه أحدها: أن "القبلة" مفعول أول، و "التي كنت عليهآ" مفعول ثان، فإن الجعل بمعنى التصيير، وهذا ما جزم به فإنه قال: "التي كنت عليهآ" ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل، يريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الزمخشري الكعبة; لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس ثم حول إلى الكعبة".
الثاني: أن "القبلة" هي المفعول الثاني، وإنما قدم، و "التي كنت عليهآ" هو الأول، وهذا ما اختاره الشيخ محتجا له بأن التصيير هو الانتقال من حال إلى حال، فالمتلبس بالحالة الأولى [هو المفعول الأول] والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفا وجعلت الجاهل عالما، والمعنى هنا على هذا التقدير، وما جعلنا القبلة - الكعبة التي كانت قبلة لك أولا ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس - قبلتك الآن إلا لنعلم، ونسب في جعله "القبلة" مفعولا أول إلى الوهم. وفيه نظر. الزمخشري
الثالث: أن "القبلة" مفعول أول، و "التي كنت" صفتها، والمفعول الثاني محذوف تقديره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة. ولما ذكر [ ص: 154 ] هذا الوجه قدره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة، ولا طائل تحته. أبو البقاء
الرابع: أن "القبلة" مفعول أول، و "إلا لنعلم" هو المفعول الثاني، وذلك على حذف مضاف تقديره: وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، نحو قولك: ضرب زيد للتأديب، أي: كائن أو ثابت للتأديب.
الخامس: أن "القبلة" مفعول أول، والثاني محذوف، و "التي كنت عليهآ" صفة لذلك المحذوف، والتقدير: وما جعلنا القبلة القبلة التي، ذكره وهو ضعيف. وفي قوله: "كنت" وجهان أحدهما: أنها زائدة، ويروى عن أبو البقاء، أي: أنت عليها، وهذا منه تفسير معنى لا إعراب. ابن عباس
والقبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل نحو: الجلسة، وفي التعارف صار اسما للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة. وقال قطرب: "يقولون: "ليس له قبلة" أي جهة يتوجه إليها". وقال غيره: إذا تقابل رجلان فكل واحد قبلة للآخر.
قوله: "إلا لنعلم" قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولا ثانيا، وأما على غيره فهو استثناء مفرغ من المفعول له العام، أي: ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا. وقوله "لنعلم" ليس على ظاهره فإن علمه قديم غير حادث فلا بد من تأويله وفيه أوجه، أحدها: لتمييز التابع من الناكص إطلاقا للسبب وإرادة المسبب. وقيل: على حذف مضاف أي ليعلم رسولنا فحذف، أو أراد بذلك تعلق العلم بطاعتهم وعصيانهم في أمر القبلة.
قوله: "من يتبع" في "من" وجهان، أحدهما: أنها موصولة، و "يتبع" [ ص: 155 ] صلتها، والموصول وصلته في محل المفعول لـ "نعلم" لأنه يتعدى إلى واحد. والثاني: أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء و "يتبع" خبره، والجملة في محل نصب لأنها معلقة للعلم، والعلم على بابه، وإليه نحا الزمخشري في أحد قوليه. وقد رد هذا الوجه فقال: "لأن ذلك يوجب أن تعلق "نعلم" عن العمل، وإذا علقت عنه لم يبق لـ "من" ما تتعلق به لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بيتبع لأنها في المعنى متعلقة بنعلم، وليس المعنى: أي فريق يتبع ممن ينقلب" انتهى. وهو رد واضح إذ ليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على أن يتعلق ممن ينقلب بنعلم نحو: علمت من أحسن إليك ممن أساء، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز; فإن العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التمييز. وقرأ أبو البقاء " "إلا ليعلم" " على البناء للمفعول، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل، فإنا [لا] نقدر ذلك الفاعل غير الله تعالى. الزهري:
قوله: "على عقبيه" في محل نصب على الحال، أي: ينقلب مرتدا راجعا على عقبيه، وهذا مجاز، وقرئ "على عقبيه" بسكون القاف وهي لغة تميم.
قوله: "وإن كانت لكبيرة" "إن" هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدإ والخبر، وهو أغلب أحوالها، واللام للفرق بينها وبين إن النافية، وهل هي لام الابتداء أو لام أخرى أتي بها للفرق؟ خلاف مشهور، وزعم الكوفيون أنها بمعنى "ما" النافية وأن اللام بمعنى إلا، والمعنى: ما كانت [ ص: 156 ] إلا كبيرة، نقل ذلك عنهم وفيه نظر ليس هذا موضع تحريره. أبو البقاء،
والقراءة المشهورة نصب "كبيرة" "على خبر "كان"واسم كان مضمر فيها يعود على التولية أو الصلاة أو القبلة المدلول عليها بسياق الكلام وقرأ [عن اليزيدي برفعها، وفيه تأويلان، أحدهما - وذكره أبي عمرو] -: أن "كان" زائدة، وفي زيادتها عاملة نظر لا يخفى، وقد استدل الزمخشري على ذلك بقوله: الزمخشري
756 - فكيف إذا مررت بدار قوم وجيران لنا كانوا كرام
فإن قوله "كرام" صفة لجيران، وزاد بينهما "كانوا" وهي رافعة للضمير، ومن منع ذلك تأول "لنا" خبرا مقدما، وجملة الكون صفة لجيران. والثاني: أن "كان" غير زائدة، بل يكون "كبيرة" خبرا لمبتدأ محذوف، والتقدير: وإن كانت لهي كبيرة، وتكون هذه الجملة في محل نصب خبرا لكانت، ودخلت لام الفرق على الجملة الواقعة خبرا، وهو توجيه ضعيف، ولكن لا توجه هذه القراءة الشاذة بأكثر من ذلك.
قوله: "إلا على الذين" متعلق بـ "كبيرة"، وهو استثناء مفرغ، فإن قيل: لم يتقدم هنا نفي ولا شبهه، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك، فالجواب أن الكلام وإن كان موجبا لفظا فإنه في معنى النفي، إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله: [ ص: 157 ] "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"، وقال الشيخ: "هو استثناء من مستثنى محذوف تقديره: وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين، وليس استثناء مفرغا لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبهه" وقد تقدم جواب ذلك.
قوله: "وما كان الله ليضيع" في هذا التركيب وما أشبهه مما ورد في القرآن وغيره نحو: "وما كان الله ليطلعكم" "ما كان الله ليذر" قولان أحدهما: - قول البصريين - وهو أن خبر "كان" محذوف، وهذه اللام تسمى لام الجحود ينتصب الفعل بعدها بإضمار "أن" وجوبا، فينسبك منها ومن الفعل مصدر منجر بهذه اللام، وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف، والتقدير: وما كان الله مريدا لإضاعة أعمالكم، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي. واشترط بعضهم مع ذلك أن يكون كونا ماضيا. ويفرق بينها وبين لام كي ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون منفي،ويدل على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله:
757 - سموت ولم تكن أهلا لتسمو . . . . . .
والقول الثاني للكوفيين: وهو أن اللام وما بعدها في محل الخبر، ولا يقدرون شيئا محذوفا، ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار أن، وأن اللام للتأكيد، وقد رد عليهم فقال: "وهو بعيد [ ص: 158 ] لأن اللام لام الجر و "أن" بعدها مرادة، فيصير التقدير على قولهم: وما كان الله إضاعة إيمانكم"، وهذا الرد غير لازم لهم، فإنهم لم يقولوا بإضمار "أن" بعد اللام كما قدمت نقله عنهم، بل يزعمون النصب بها وأنها زائدة للتأكيد، ولكن للرد عليهم موضع غير هذا. أبو البقاء
واعلم أن قولك: "ما كان زيد ليقوم" بلام الجحود أبلغ من: "ما كان زيد يقوم"، أما على مذهب البصريين فواضح، وذلك أن مع لام الجحود نفي الإرادة للقيام والتهيئة، ودونها نفي للقيام فقط، ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل، إذ لا يلزم من نفي الفعل نفي إرادته، وأما على مذهب الكوفيين فلأن اللام عندهم للتوكيد والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد.
وقرأ "ليضيع" بالتشديد، وذلك أن أضاع وضيع بالهمزة أو التضعيف للنقل من "ضاع" القاصر، يقال: ضاع الشيء يضيع، وأضعته أي أهملته فلم أحفظه، وأما ضاع المسك يضوع أي: فاح فمادة أخرى. الضحاك:
قوله: "لرءوف" قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي لرؤف على وزن: ندس، وهي لغة فاشية كقوله: وأبو بكر:
758 - وشر الظالمين فلا تكنه يقاتل عمه الرؤف الرحيما
وقال آخر:
759 - يرى للمسلمين عليه حقا كحق الوالد الرؤف الرحيم
[ ص: 159 ] وقرأ الباقون: "لرؤوف" على زنة شكور، وقرأ "لروف" من غير همز، وهذا دأبه في كل همزة ساكنة أو متحركة. والرأفة: أشد الرحمة فهي أخص منها، وفي رؤوف لغتان أخريان لم تصل إلينا بهما قراءة وهما: رئف على وزن فخذ، ورأف على وزن صعب. وإنما قدم على "رحيم" لأجل الفواصل. أبو جعفر: