والصيام: مصدر صام يصوم صوما، والأصل: صواما، فأبدلت الواو ياء والصوم مصدر أيضا، وهذان البناءان - أعني فعل وفعال - كثيران في كل فعل واوي العين صحيح اللام، وقد جاء منه شيء قليل على فعول قالوا: غار غوورا، وإنما استكرهوه لاجتماع الواوين، ولذلك همزه بعضهم فقال: الغؤور. والصيام لغة الإمساك عن الشيء مطلقا، ومنه: صامت الريح: أمسكت عن الهبوب، والفرس: أمسكت عن العدو، [قال]:
835 - خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
[ ص: 267 ] وقال تعالى: إني نذرت للرحمن صوما أي: سكوتا لقوله: "فلن أكلم اليوم إنسيا". وصام النهار أي: اشتد حره، قال: 836 - حتى إذا صام النهار واعتدل ومال للشمس لعاب فنزل
837 - كأن الثريا علقت في مصامها بأمراس كتان إلى صم جندل
الرابع: أن يكون في محل نصب على الحال من "الصيام"، وتكون "ما" موصولة، أي: مشبها الذي كتب. والعامل فيها "كتب" لأنه عامل في صاحبها. الخامس: أن يكون في محل رفع لأنه صفة للصيام، وهذا مردود بأن الجار والمجرور من قبيل النكرات والصيام معرفة، فكيف توصف المعرفة بالنكرة؟ وأجاب عن ذلك "بأن الصيام غير معين" كأنه يعني أن "أل" فيه للجنس والمعرف بأل الجنسية عندهم قريب من النكرة، ولذلك جاز أن تعتبر لفظة مرة ومعناه أخرى، قالوا: "أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض" ومنه: أبو البقاء
838 - ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
قوله "أياما" في نصبه أربعة أوجه، أظهرها: أنه منصوب بعامل مقدر يدل عليه سياق الكلام تقديره: صوموا أياما، ويحتمل هذا النصب وجهين: إما الظرفية وإما المفعول به اتساعا.
الثاني: أنه منصوب بالصيام، ولم يذكر غيره، ونظره [ ص: 269 ] بقولك: "نويت الخروج يوم الجمعة"، وهذا ليس بشيء، لأنه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي، وهو قوله: "كما كتب" لأنه ليس معمولا للمصدر على أي تقدير قدرته. فإن قيل: يجعل "كما كتب" صفة للصيام، وذلك على رأي من يجيز وصف المعرف بأل الجنسية بما يجري مجرى النكرة فلا يكون أجنبيا. قيل: يلزم من ذلك وصف المصدر قبل ذكر معموله، وهو ممتنع. الزمخشري
الثالث: أنه منصوب بالصيام على أن تقدر الكاف نعتا لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وإن كان ضعيفا، فيكون التقدير: "الصيام صوما كما كتب" فجاز أن يعمل في "أياما"" الصيام" لأنه إذ ذاك عامل في "صوما" الذي هو موصوف بـ "كما كتب" فلا يقع الفصل بينهما بأجنبي بل بمعمول المصدر.
الرابع: أن ينتصب بكتب: إما على الظرف وإما على المفعول به توسعا، وإليه نحا وتبعه الفراء قال الشيخ: "وكلا القولين خطأ: أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام. وأما النصب على المفعول اتساعا فإن ذلك مبني على كونه ظرفا لكتب، وقد تقدم أنه خطأ. أبو البقاء.
و"معدودات" صفة، وجمع صفة ما لا يعقل بالألف والتاء مطرد نحو هذا، وقوله "جبال راسيات - وأيام معلومات".
قوله: "أو على سفر" في محل نصب عطفا على خبر كان. و "أو" هنا [ ص: 270 ] للتنويع، وعدل عن اسم الفاعل، فلم يقل: "أو مسافرا" إشعارا بالاستعلاء على السفر لما فيه من الاختيار بخلاف المرض فإنه قهري.
قوله: "فعدة من أيام" الجمهور على رفع "فعدة"، وفيه وجوه أحدها: أنه مبتدأ والخبر محذوف: إما قبله تقديره: فعليه عدة، أو بعده أي: فعدة أمثل به. الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: فالواجب عدة. الثالث: أن يرتفع بفعل محذوف، أي: فتجزيه عدة. وقرئ: "فعدة" نصبا بفعل محذوف، تقديره: فليصم عدة. وكأن أبا البقاء لم يطلع على هذه القراءة فإنه قال: "ولو قرئ بالنصب لكان مستقيما". ولا بد من حذف مضاف تقديره: "فصوم عدة" ومن حذف جملة بين الفعلين ليصح الكلام تقديره: فأفطر فعدة، ونظيره: "أن اضرب بعصاك البحر فانفلق" أي: فضرب فانفلق. و"عدة" بمعنى "معدودة" كالطحن والذبح. ونكر قوله "فعدة" ولم يقل "فعدتها" اتكالا على المعنى. و"من أيام" في محل رفع أو نصب على حسب القراءتين صفة لعدة.
قوله: "أخر" صفة لأيام. و"أخر" على ضربين، ضرب: جمع "أخرى" تأنيث "آخر" الذي هو أفعل تفضيل. وضرب جمع أخرى بمعنى آخرة، تأنيث: "آخر" المقابل لأول، ومنه قوله تعالى: "قالت أخراهم لأولاهم". فالضرب الأول لا ينصرف، والعلة المانعة له من الصرف: الوصف والعدل.
واختلف النحويون في كيفية العدل، فقال الجمهور: إنه عدل عن [ ص: 271 ] الألف واللام، وذلك أن "أخر" جمع أخرى، وأخرى تأنيث "آخر" وآخر أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل لا يخلو عن أحد ثلاثة استعمالات: إما مع أل وإما مع "من" وإما مع الإضافة. لكن "من ممتنعة لأنها معها يلزم الإفراد والتذكير، ولا إضافة في اللفظ، فقدرنا عدله عن الألف واللام، وهذا كما قالوا في "سحر" إنه عدل عن الألف واللام إلا أن هذا مع العلمية. ومذهب أنه عدل من صيغة إلى صيغة لأنه كان حق الكلام في قولك: "مررت بنسوة أخر" على وزن فعل أن يكون "بنسوة آخر" على وزن أفعل لأن المعنى على تقدير من، فعدل عن المفرد إلى الجمع. ولتحقيق المذهبين موضع هو أليق به من هذا. سيبويه
وأما الضرب الثاني فهو منصرف لفقدان العلة المذكورة. والفرق بين "أخرى" التي للتفضيل و "أخرى" التي بمعنى متأخرة أن معنى التي للتفضيل معنى "غير" ومعنى تيك معنى متأخرة، ولكون الأولى بمعنى "غير" لا يجوز أن يكون ما اتصل بها إلا من جنس ما قبلها نحو: "مررت بك وبرجل آخر" ولا يجوز: اشتريت هذا الجمل وفرسا آخر لأنه من غير الجنس. وأما قوله:
839 - صلى على عزة الرحمان وابنتها ليلى وصلى على جاراتها الأخر
وإنما وصفت الأيام بـ "أخر" من حيث إنها جمع ما لا يعقل، وجمع ما لا يعقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة ومعاملة جمع الإناث، فمن الأول: "ولي فيها مآرب أخرى"، ومن الثاني هذه الآية ونظائرها، [ ص: 272 ] وإنما أوثر هنا معاملته معاملة الجمع لأنه لو جيء به مفردا فقيل: عدة من أيام أخرى لأوهم أنه وصف لعدة فيفوت المقصود.
قوله: "يطيقونه" الجمهور على "يطيقونه" من أطاق يطيق، مثل أقام يقيم. وقرأ حميد: "يطوقونه" من أطوق، كقولهم: أطول في أطال، وأغول في أغال، وهذا تصحيح شاذ، ومثله في الشذوذ من ذوات الواو: أجود بمعنى أجاد، ومن ذوات الياء: أغيمت السماء وأجيلت، وأغيلت المرأة، وأطيبت، وقد جاء الإعلال في الكل وهو القياس، ولم يقل بقياس نحو: "أغيمت" و "أطول" إلا أبو زيد.
وقرأ ابن عباس "يطوقونه" مبنيا للمفعول من طوق مضعفا على وزن قطع. وقرأت وابن مسعود: عائشة وابن دينار: "يطوقونه" بتشديد الطاء والواو من أطوق، وأصله تطوق، فلما أريد إدغام التاء في الطاء قلبت طاء، واجتلبت همزة الوصل لتمكن الابتداء بالساكن، وقد تقدم تقرير ذلك في قوله: "أن يطوف بهما". وقرأ وطائفة: "يطيقونه" بفتح الياء وتشديد الطاء والياء، وتروى عن عكرمة أيضا. وقرئ أيضا هكذا لكن ببناء الفعل للمفعول. مجاهد
[ ص: 273 ] وقد رد بعض الناس هذه القراءة. وقال "تشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف" وإنما قالوا ببطلان هذه القراءة لأنها عندهم من ذوات الواو وهو الطوق، فمن أين تجيء الياء؟ وهذه القراءة ليست باطلة ولا ضعيفة، ولها تخريج حسن: وهو أن هذه القراءة ليست من تفعل حتى يلزم ما قالوه من الإشكال، وإنما هي من تفيعل، والأصل: تطيوق من الطوق، كتدير وتحير من الدوران، والحور، والأصل: تديور وتحيور، فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فكان الأصل: يتطيوقونه، ثم أدغم بعد القلب، فمن قرأه "يطيقونه" بفتح الياء بناه للفاعل، ومن ضمها بناه للمفعول. وتحتمل قراءة التشديد في الواو أو الياء أن تكون للتكلف، أي: يتكلفون إطاقته، وذلك مجاز من الطوق الذي هو القلادة، كأنه بمنزلة القلادة في أعناقهم. ابن عطية:
وأبعد من زعم أن "لا" محذوفة قبل "يطيقونه" وأن التقدير: "لا يطيقونه" ونظره بقوله:
840 - فحالف فلا والله تهبط تلعة من الأرض إلا أنت للذل عارف
841 - آليت أمدح مغرما أبدا يبقى المديح ويذهب الرفد
842 - فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
والهاء في "يطيقونه" للصوم، وقيل: للفداء، قاله الفراء.
و"فدية" مبتدأ، خبره في الجار قبله. والجماعة على تنوين "فدية" ورفع "طعام" وتوحيد "مسكين" وهشام كذلك إلا أنه قرأ: "مساكين" جمعا، ونافع وابن ذكوان بإضافة "فدية" إلى "طعام مساكين" جمعا. فالقراءة الأولى يكون "طعام" بدلا من "فدية" بين بهذا البدل المراد بالفدية، وأجاز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هي طعام. وأما إضافة الفدية للطعام فمن باب إضافة الشيء إلى جنسه، والمقصود به البيان كقولك. خاتم حديد وثوب خز وباب ساج، لأن الفدية تكون طعاما وغيره. وقال بعضهم: "يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، قال: "لأن الفدية لها ذات وصفتها أنها طعام" وهذا فاسد، لأنه: إما أن يريد بطعام المصدر بمعنى الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء، أو يريد به المفعول، وعلى كلا التقديرين فلا يوصف به; لأن المصدر لا يوصف به إلا عند المبالغة، وليست مرادة هنا، والذي بمعنى المفعول ليس جاريا على فعل ولا ينقاس، لا تقول: ضراب بمعنى مضروب، ولا قتال بمعنى مقتول، ولكونها غير جارية على فعل لم تعمل عمله، لا تقول: "مررت برجل طعام خبزه" وإذا كان غير صفة فكيف يقال: أضيف الموصوف لصفته؟ أبو البقاء
[ ص: 275 ] وإنما أفردت "فدية" لوجهين، أحدهما: أنها مصدر والمصدر يفرد، والتاء فيها ليست للمرة، بل لمجرد التأنيث. والثاني: أنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع أفهمت الجمع، وهذا في قراءة "مساكين" بالجمع. ومن جمع "مساكين" فلمقابلة الجمع بالجمع، ومن أفرد فعلى مراعاة إفراد العموم، أي: وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين. ونظيره: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة".
وتبين من إفراد "المسكين" أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين، ولا يفهم ذلك من الجمع. والطعام: المراد به الإطعام، فهو مصدر، ويضعف أن يراد به المفعول، قال "لأنه أضافه إلى المسكين، وليس الطعام للمسكين قبل تمليكه إياه، فلو حمل على ذلك لكان مجازا، لأنه يصير تقديره: فعليه إخراج طعام يصير للمساكين، فهو من باب تسمية الشيء، بما يؤول إليه، وهو وإن كان جائزا إلا أنه مجاز والحقيقة أولى منه". أبو البقاء:
قوله: "فمن تطوع خيرا" قد تقدم نظيره والكلام مستوفى عليه عند قوله: "ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم" فليلتفت إليه. والضمير في قوله: "فهو" ضمير المصدر المدلول عليه بقوله: "فمن تطوع" أي: فالتطوع خير له. و"له" في محل رفع لأنه صفة لخير، فيتعلق بمحذوف، أي: خير كائن له.
[ ص: 276 ] قوله: "وأن تصوموا" في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء تقديره: "صومكم" و "خير" خبره. ومثله: "وأن تعفوا أقرب للتقوى".
وقوله: "إن كنتم تعلمون" شرط حذف جوابه، تقديره: فالصوم خير لكم. وحذف مفعول العلم: إما اقتصارا، أي: إن كنتم من ذوي العلم والتمييز، أو اختصارا أي: تعلمون ما شرعيته وتبيينه، أو فضل ما علمتم.