[ ص: 107 ] قوله : من دون المؤمنين فيه وجهان ، أظهرهما : أن "من " لابتداء الغاية ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ . قال علي بن عيسى : "أي : لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين " وقد تقدم تحقيق هذا عند قوله تعالى : وادعوا شهداءكم من دون الله في البقرة . والثاني أجازه أن يكون في موضع نصب صفة لأولياء ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف . قوله : أبو البقاء ومن يفعل ذلك أدغم في رواية الكسائي عنه اللام في الذال هنا ، وفي مواضع أخر تقدم التنبيه عليها وعلى علتها في سورة البقرة . الليث
قوله : من الله الظاهر أنه في محل نصب على الحال من "شيء " لأنه لو تأخر لكان صفة له . و " في شيء " هو خبر ليس ، لأن به تستقل فائدة الإسناد ، والتقدير : فليس في شيء كائن من الله ، ولا بد من حذف مضاف أي : فليس من ولاية الله ، وقيل : من دين الله . ونظر بعضهم الآية الكريمة ببيت : النابغة
1223 - إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني
قال الشيخ : "والتنظير ليس بجيد ، لأن " منك "و " مني "خبر " ليس " ، تستقل به الفائدة ، وفي الآية : الخبر قوله " في شيء "فليس البيت كالآية " .
وقد نحا هذا المنحى الذي ذكرته عن بعضهم فقال : [ ص: 108 ] " فليس من الله في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ابن عطية "وفي الكلام حذف مضاف تقديره : فليس من التقرب إلى الله والثواب ونحو هذا ، وقوله : " من غشنا فليس منا في شيء "هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله : " ليس من الله " . قال الشيخ : "وهو كلام مضطرب ، لأن تقديره : فليس من التقرب إلى الله يقتضي ألا يكون " من الله "خبرا لليس ، إذ لا يستقل ، وقوله : " في شيء "هو في موضع نصب على الحال يقتضي ألا يكون خبرا ، فتبقى " ليس "على قوله ليس لها خبر ، وذلك لا يجوز ، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله عليه السلام : " "ليس بجيد ؛ لما بينا من الفرق بين بيت من غشنا فليس منا وبين الآية الكريمة " . النابغة
قلت : قد يجاب عن قوله : "إن " من الله "لا يكون خبرا لعدم الاستقلال " بأن في الكلام حذف مضاف ، تقديره : فليس من أولياء الله ، أو ليس ، لأن اتخاذ الكفار أولياء ينافي ولاية الله تعالى ، وكذا قول : فليس من التقرب أي : من أهل التقرب ، وحينئذ يكون التنظير بين الآية والحديث وبيت ابن عطية مستقيما بالنسبة إلى ما ذكر ، ونظير تقدير المضاف هنا قوله تعالى : النابغة فمن تبعني فإنه مني أي : ما أشياعي وأتباعي ، وكذا قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني ، وقول العرب : "أنت مني [ ص: 109 ] فرسخين " أي : من أشياعي ، ما سرنا فرسخين . ويجوز أن يكون "من الله " هو خبر ليس ، و "في شيء " يكون حالا من الضمير في "ليس " كما ذهب إليه تصريحا ، وغيره إيماء ، وقد تقدم اعتراض الشيخ عليهما وجوابه . ابن عطية
قوله : إلا أن تتقوا هذا استثناء مفرغ من المفعول [من أجله ، والعامل فيه : لا يتخذ أي ] : لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشيء من الأشياء إلا للتقية ظاهرا ، أي يكون مواليه في الظاهر ومعاديه في الباطن ، وعلى هذا فقوله : ومن يفعل ذلك وجوابه معترض بين العلة ومعلولها .
وفي قوله : إلا أن تتقوا التفات من غيبة إلى خطاب ، ولو جرى على سنن الكلام الأول لجاء بالكلام غيبة ، وأبدوا للالتفات هنا معنى حسنا : وذلك أن موالاة الكفار لما كانت مستقبحة لم يواجه الله عباده بخطاب النهي ، بل جاء به في كلام أسند الفعل المنهي عنه لغيب ، ولما كانت المجاملة في الظاهر والمحاسنة جائزة لعذر وهو اتقاء شرهم حسن الإقبال إليهم وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك .
قوله : تقاة في نصبها ثلاثة أوجه وذلك مبني على تفسير "تقاة " ما هي ؟ أحدها : أنها منصوبة على المصدر والتقدير : تتقوا منهم اتقاء ، فتقاة واقعة موقع الاتقاء ، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها ، والأصل : أن تتقوا اتقاء ، نحو : تقتدروا اقتدارا ، ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائد كقوله : أنبتكم من الأرض نباتا والأصل إنبات ومثله :
1224 - ... ... ... ... وبعد عطائك المئة الرتاعا
[ ص: 110 ] أي : إعطائك ، ومن ذلك أيضا قوله :
1225 - ... ... ... ... وليس بأن تتبعه اتباعا
قول الآخر :
1226 - ولاح بجانب الجبلين منه ركام يحفر الأرض احتفارا
وهكذا عكس الآية ، إذا جاء بالمصدر مزادا فيه ، والفعل الناصب له مجرد من تلك الزوائد . ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا ، والأصل تبتلا ، ومثله :
1227 - وقد تطويت انطواء الحضب ... ... ... ...
والأصل : تطويا ، وأصل تقاة : "وقية " مصدر على فعل من الوقاية ، وقد تقدم تفسير هذه المادة في أول هذا الموضوع ، ثم أبدلت الواو تاء ، ومثلها تخمة وتكاة وتجاه ، وتحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ، فصار اللفظ "تقاة " ، كما ترى ، ووزنها فعلة ، ومجيء المصدر على فعل وفعلة قليل نحو : التخمة والتهمة والتؤدة والتكأة ، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير الصدر ، والكثير مجيء المصادر جارية على أفعالها قيل : وحسن مجيء هذا [ ص: 111 ] المصدر ثلاثيا كون "فعلة " قد حذفت زوائده في كثير من كلامهم نحو : تقى يتقي ومنه :
1228 - ... ... ... ... تق الله فينا والكتاب الذي تتلو
وقد قدمت تحقيق ذلك في أول البقرة .
الثاني : أنها منصوبة على المفعول به ، وذلك أن يكون "تتقوا " بمعنى تخافوا ، ويكون "تقاة " مصدرا واقعا موقع المفعول به ، وهو ظاهر قول فإنه قال : "إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه ، وقرئ " تقية " ، وقيل للمتقى : تقاة وتقية كقولهم " ضرب الأمير "لمضروبه " . انتهى فصار تقدير الكلام : إلا أن تخافوا منهم أمرا متقى . الزمخشري
الثالث : أنها منصوبة على الحال وصاحب الحال فاعل "تتقوا " وعلى هذا تكون حالا مؤكدة ، لأن معناه مفهوم من عاملها كقوله : ويوم أبعث حيا ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، وهو على هذا جمع "فاعل " وإن لم يلفظ بفاعل من هذه المادة فيكون فاعلا وفعلة نحو : رام ورماة وغاز وغزاة ، لأن فعله يطرد جمعا لفاعل الوصف المعتل اللام ، وقيل : بل فعلة جمع لفعيل ، أجاز ذلك كله . قلت : جمع فعيل على فعلة لا يجوز ، فإن فعيلا الوصف المعتل اللام يجمع على أفعلاء نحو : غني وأغنياء ، وتقي وأتقياء ، وصفي وأصفياء ، فإن قيل : قد جاء فعيل الوصف مجموعا على فعلة قالوا : كمي وكماة ، فالجواب : أنه من الندور بحيث لا يقاس عليه . أبو علي الفارسي
[ ص: 112 ] وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة وأبو حيوة ويعقوب وسهل في رواية وعاصم المفضل عنه : "تتقوا منهم تقية " بوزن "مطية " وهي مصدر أيضا بمعنى "تقاة " ، يقال : اتقى يتقي اتقاء وتقوى وتقاة وتقية وتقى ، فيجيء مصدر افتعل من هذه المادة على الافتعال وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزان ، ويقال أيضا : تقيت أتقي ثلاثيا تقية وتقوى وتقاة وتقى ، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق .
وأمال الأخوان "تقاة " هنا ، لأن ألفها منقلبة عن ياء كما تقدم تقريره ، ولم يؤثر حرف الاستعلاء في منع الإمالة لأن السبب غير ظاهر ، ألا ترى أن سبب الإمالة الياء المقدرة بخلاف "غالب " و "طالب " و "قادم " فإن حرف الاستعلاء هنا مؤثر لكون سبب الإمالة ظاهرا وهو الكسرة ، وعلى هذا يقال : كيف يوثر مع السبب الظاهر ولم يؤثر مع المقدر وكان العكس أولى ؟ والجواب أن الكسرة سبب منفصل عن الحرف الممال ليس موجودا فيه بخلاف الألف المنقلبة عن باء فإنها نفسها مقتضية للإمالة ، فلذلك لم يقاومها حرف الاستعلاء .
وأمال وحده الكسائي حق تقاته ، فخرج عن أصله ، وكان الفرق أن "تقاة " هذه رسمت بالياء فلذلك وافق حمزة حمزة عليه ، ولذلك قرأ بعضهم "تقية " بوزن مطية كما تقدم لظاهر الرسم ، بخلاف "حق تقاته " ، وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذ لأجل حرف الاستعلاء ، وأن الكسائي حكى عن قوم أنهم يميلون شيئا [ ص: 113 ] لا يجوز إمالته نحو : "رأيت عرقى " بالإمالة ، وليس هذا من ذاك لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في "عرقى " كسرة ظاهرة . سيبويه
وقوله : منهم متعلق بـ " تتقوا " ، أو بمحذوف على أنه حال من "تقاة " لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفة لها ، فلما قدم نصب حالا . هذا إذا لم تجعل "تقاة " حالا ، فأما إذا جعلناها حالا تعين أن يتعلق "منهم " بالفعل قبله ، ولا يجوز أن يكون حالا من "تقاة " لفساد المعنى لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين .
قوله : نفسه مفعول ثان لحذر ؛ لأنه في الأصل متعد بنفسه لواحد فازداد بالتضعيف آخر ، وقدر بعضهم حذف مضاف أي : عقاب نفسه . وصرح بعضهم بعدم الاحتياج إليه ، كذا نقله عن بعضهم ، وليس بشيء ، إذ لا بد من تقدير هذا المضاف لصحة المعنى ، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه في نحو قولك : "حذرتك نفس زيد " أنه لا بد من شيء تحذر منه كالعقاب والسطوة ، لأن الذوات لا يتصور الحذر منها نفسها ، إنما يتصور من أفعالها وما يصدر عنها . وعبر هنا بالنفس عن الذات جريا على عادة أبو البقاء العرب ، كما قال الأعشى :
1229 - يوما بأجود نائلا منه إذا نفس الجبان تجهمت سؤالها
وقال بعضهم : الهاء في "نفسه " تعود على المصدر المفهوم من قوله : لا يتخذ أي : ويحذركم الله نفس الاتخاذ ، والنفس عبارة عن وجود الشيء وذاته .