قوله تعالى: " وقضى ربك " روى ابن أبي طلحة عن قال: أمر ربك . ونقل عنه ابن عباس، أنه قال: إنما هي ( ووصى ربك ) فالتصقت إحدى [ ص: 22 ] الواوين بـ( الصاد )، وكذلك قرأ الضحاك أبي بن كعب، وأبو المتوكل، ( ووصى )، وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإجماع، فلا يلتفت إليه . وقرأ وسعيد بن جبير: أبو عمران، وعاصم الجحدري، ومعاذ القارئ: ( وقضاء ربك ) بقاف وضاد بالمد والهمز والرفع وخفض اسم الرب . قال هذا القضاء من باب الحتم والوجوب، لكنه من باب الأمر والفرض، وأصل القضاء في اللغة: قطع الشيء بإحكام وإتقان، قال الشاعر يرثي ابن الأنباري: عمر:
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق
أراد: قطعتها محكما لها .
قوله تعالى: " وبالوالدين إحسانا " ; أي: وأمر بالوالدين إحسانا، وهو البر والإكرام، وقد ذكرنا هذا في ( البقرة: 83 ) .
قوله تعالى: " إما يبلغن " قرأ ابن كثير، ونافع، ، وأبو عمرو وعاصم، ( يبلغن ) على التوحيد . وقرأ وابن عامر: حمزة، والكسائي، ( يبلغان ) [ ص: 23 ] على التثنية . قال وخلف: جعلت " يبلغن " فعلا لأحدهما، وكرت عليهما " كلاهما " . ومن قرأ: ( يبلغان )، فإنه ثنى ; لأن الوالدين قد ذكرا قبل هذا، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: " أحدهما أو كلاهما " على الاستئناف، كقوله: الفراء: فعموا وصموا [ المائدة: 71 ]، ثم استأنف فقال: " كثير منهم " .
قوله تعالى: " فلا تقل لهما أف " قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، عن وأبو بكر ( أف ) بالكسر من غير تنوين . وقرأ عاصم: ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والمفضل: ( أف ) بالفتح من غير تنوين . وقرأ نافع وحفص عن ( أف ) بالكسر والتنوين . وقرأ عاصم: أبو الجوزاء ( أف ) بالرفع والتنوين وتشديد الفاء . وقرأ وابن يعمر: معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وحميد بن قيس: ( أفا ) مثل ( تعسا ) . وقرأ أبو عمران الجوني وأبو السماك العدوي: ( أف ) بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء، وهي رواية عن الأصمعي وقرأ أبي عمرو . عكرمة، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، ( أف ) بإسكان الفاء وتخفيفها ; قال وأبو الجوزاء: وهذا لأن بعض الأخفش: العرب يقول: ( أف لك ) على الحكاية، والرفع قبيح ; لأنه لم يجئ بعده لام . وقرأ أبو العالية ( أفي ) بتشديد الفاء وياء . وروى وأبو حصين الأسدي: أن بعضهم قرأها: ( إف ) بكسر الهمزة . وقال ابن الأنباري فيها سبع لغات: الكسر بلا تنوين وبتنوين، والضم بلا تنوين وبتنوين، والفتح بلا تنوين وبتنوين، واللغة السابعة لا تجوز في القراءة: ( أفي ) بالياء، هكذا قال الزجاج: وقال الزجاج . في ( أف ) عشرة أوجه: ( أف لك ) بفتح الفاء، و( أف ) بكسرها، و( أف )، و( أفا لك ) بالنصب والتنوين على مذهب الدعاء [ ص: 24 ] كما تقول: ( ويلا ) للكافرين، و( أف لك ) بالرفع والتنوين، وهو رفع باللام، كقوله تعالى: ابن الأنباري: ويل للمطففين [ المطففون: 1 ]، و( أفه لك ) بالخفض والتنوين تشبيها بالأصوات، كقولك: ( صه، ومه )، و( أفها لك ) على مذهب الدعاء أيضا، و( أفي لك ) على الإضافة إلى النفس، و( أف لك ) بسكون الفاء تشبيها بالأدوات، مثل: ( كم، وهل، وبل )، و( إف لك ) بكسر الألف . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: وتقول: ( أف منه، وأف، وأف، وأف، وأفا، وأف، وأفي مضاف، وأفها، وأفا بالألف )، ولا تقل: ( أفي ) بالياء، فإنه خطأ .
فأما معنى ( أف ) ففيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه وسخ الظفر، قاله والثاني: وسخ الأذن، قاله الخليل . والثالث: قلامة الظفر، قاله الأصمعي . والرابع: أن ( الأف ): الاحتقار والاستصغار من ( الأفف ) . والأفف عند ثعلب . العرب: القلة، ذكره والخامس: أن ( الأف ) ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن الأنباري . وقرأت على شيخنا ابن فارس اللغوي . أبي منصور، قال: معنى ( الأف ): النتن والتضجر، وأصلها: نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد، وللمكان تريد إماطة الأذى عنه، فقيلت لكل مستثقل . قال المصنف: وأما قولهم: ( تف ) فقد جعلها قوم بمعنى ( أف )، فروي عن أبي عبيد أنه قال: أصل ( الأف، والتف ): الوسخ على الأصابع إذا فتلته . وحكى فرقا، فقال: قال اللغويون: أصل ( الأف ) في اللغة: وسخ الأذن، و( التف ): وسخ الأظفار، فاستعملتهما ابن الأنباري العرب فيما يكره ويستقذر ويضجر منه . وحكى فرقا آخر، فقال: قد [ ص: 25 ] قيل: إن ( أف ): وسخ الأظفار، و( التف ): الشيء الحقير، نحو: وسخ الأذن، أو الشظية تؤخذ من الأرض، ومعنى ( أف ): النتن، ومعنى الآية: لا تقل لهما كلاما تتبرم فيه بهما إذا كبرا وأسنا، فينبغي أن تتولى من خدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وخدمتك . " الزجاج ولا تنهرهما " ; أي: لا تكلمهما ضجرا صائحا في وجوههما . وقال لا تنفض يدك عليهما، يقال: نهرته أنهره نهرا، وانتهرته انتهارا، بمعنى واحد . وقال عطاء بن أبي رباح: نهرت الرجل وانتهرته، مثل: زجرته . قال المفسرون: وإنما نهى عن أذاهما في الكبر، وإن كان منهيا عنه على كل حالة ; لأن حالة الكبر يظهر فيها منهما ما يضجر ويؤذي، وتكثر خدمتهما . ابن فارس:
قوله تعالى: " وقل لهما قولا كريما " ; أي: لينا لطيفا أحسن ما تجد . وقال قول العبد المذنب للسيد الفظ . سعيد بن المسيب:
قوله تعالى: " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " ; أي: ألن لهما جانبك متذللا لهما من رحمتك إياهما . وخفض الجناح قد شرحناه في [ الحجر: 88 ] . قال جناحك: يداك، فلا ترفعهما على والديك . والجمهور يضمون الذال من " الذل " . وقرأ عطاء: أبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعاصم الجحدري، بكسر الذال . قال وابن أبي عبلة: الذل: أن تتذلل لهما، من الذل، والذل: أن تتذلل ولست بذليل في الخدمة، والذل والذلة: مصدر الذليل، والذل بالكسر: مصدر الذلول، مثل: الدابة والأرض . قال الفراء: من قرأ ( الذل ) بكسر الذال، جعله بمعنى الذل بضم الذال، والذي عليه كبراء أهل اللغة أن الذل من الرجل: الذليل، والذل من الدابة: الذلول . ابن الأنباري:
قوله تعالى: " وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا " ; أي: مثل رحمتهما إياي في [ ص: 26 ] صغري حتى ربياني . وقد ذهب قوم إلى أن هذا الدعاء المطلق نسخ منه الدعاء لأهل الشرك بقوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين [ التوبة: 113 ]، وهذا المعنى منقول عن والحسن، وعكرمة، ومقاتل . قال المصنف: ولا أرى هذا نسخا عند الفقهاء ; لأنه عام دخله التخصيص، وقد ذكر قريبا مما قلته ابن عباس، ابن جرير .
قوله تعالى: " ربكم أعلم بما في نفوسكم " ; أي: بما تضمرون من البر والعقوق، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يضمر العقوق، غفر له ذلك، وهو قوله: " إن تكونوا صالحين " ; أي: طائعين لله، [ وقيل ]: بارين، وقيل: توابين . " فإنه كان للأوابين غفورا " في الأواب عشرة أقوال:
أحدها: أنه المسلم، رواه عن الضحاك ابن عباس .
والثاني: أنه التواب، رواه عن أبو صالح وبه قال ابن عباس، مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقال وأبو عبيدة . هو التائب مرة بعد مرة . وقال ابن قتيبة: هو التواب المقلع عن جميع ما نهاه الله عنه، يقال: قد آب يؤوب أوبا: إذا رجع . الزجاج:
والثالث: أنه المسبح، رواه عن سعيد بن جبير ابن عباس .
والرابع: أنه المطيع لله تعالى، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والخامس: أنه الذي يذكر ذنبه في الخلاء، فيستغفر الله منه، قاله عبيد بن عمير .
والسادس: أنه المقبل إلى الله تعالى بقلبه وعمله، قاله الحسن .
والسابع: المصلي، قاله قتادة .
والثامن: هو الذي يصلي بين المغرب والعشاء، قاله [ ص: 27 ] ابن المنكدر .
والتاسع: الذي يصلي صلاة الضحى، قاله عون العقيلي .
والعاشر: أنه الذي يذنب سرا ويتوب سرا، قاله السدي .