قوله تعالى: " فلا تسألني " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( فلا تسألني ) ساكنة اللام . وقرأ نافع: ( فلا تسألني ) مفتوحة اللام مشددة النون . وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني: ( فلا تسألن عن [ ص: 171 ] شيء ) بتحريك اللام من غير ياء والنون مكسورة، والمعنى: لا تسألني عن شيء مما أفعله، " حتى أحدث لك منه ذكرا " ; أي: حتى أكون أنا الذي أبينه لك ; لأن علمه قد غاب عنك .
قوله تعالى: " خرقها " ; أي: شقها . قال المفسرون: قلع منها لوحا، وقيل: لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه، وأنكر عليه ما فعل بقوله: " أخرقتها لتغرق أهلها " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( لتغرق ) بالتاء ( أهلها ) بالنصب . وقرأ حمزة والكسائي: ( ليغرق ) بالياء ( أهلها ) برفع اللام . " لقد جئت شيئا إمرا " وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: منكرا، قاله مجاهد . وقال الزجاج: عظيما من المنكر . والثاني: عجبا، قاله قتادة وابن قتيبة . والثالث: داهية، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى: " لا تؤاخذني بما نسيت " في هذا النسيان ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على حقيقته وأنه نسي، روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الأولى كانت نسيانا من موسى " .
والثاني: أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، قاله أبي بن كعب وابن عباس .
والثالث: أنه بمعنى الترك، فالمعنى: لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى: " ولا ترهقني " قال الفراء: لا تعجلني . وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: لا تغشني . قال أبو زيد: يقال: أرهقته عسرا: إذا كلفته ذلك . قال الزجاج: والمعنى: عاملني باليسر لا بالعسر . [ ص: 172 ]
قوله تعالى: " فانطلقا " يعني: موسى والخضر . قال الماوردي: يحتمل أن يوشع تأخر عنهما ; لأن الإخبار عن اثنين، ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر ; لأنه تبع لموسى، فاقتصر على حكم المتبوع .
قوله تعالى: " حتى إذا لقيا غلاما " اختلفوا في هذا الغلام، هل كان بالغا أم لا ؟ على قولين:
أحدهما: أنه لم يكن بالغا، قاله ابن عباس، ومجاهد، والأكثرون .
والثاني: أنه كان شابا قد قبض على لحيته، حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا، واحتج بأن غير البالغ لم يجر عليه قلم، فلم يستحق القتل . وقد يسمى الرجل غلاما، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:
[ شفاها من الداء العضال الذي بها ] غلام إذا هز القناة سقاها
وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اقتلع رأسه، وقد ذكرناه في حديث أبي . والثاني: كسر عنقه، قاله ابن عباس . والثالث: أضجعه وذبحه بالسكين، قاله سعيد بن جبير .
قوله تعالى: ( أقتلت نفسا زاكية ) قرأ الكوفيون وابن عامر: ( زكية ) بغير ألف والياء مشددة . وقرأ الباقون بالألف من غير تشديد . قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وهما بمنزلة القاسية والقسية .
وللمفسرين فيها ستة أقوال:
أحدها: أنها التائبة، روي عن ابن عباس أنه قال: الزكية: التائبة، [ وبه ] قال الضحاك . [ ص: 173 ]
والثاني: أنها المسلمة، روي عن ابن عباس أيضا .
والثالث: أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا، قاله سعيد بن جبير .
والرابع: أنها الزكية النامية، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري: القويمة في تركيبها .
والخامس: أن الزكية: المطهرة، قاله أبو عبيدة .
والسادس: أن الزكية: البريئة التي لم يظهر ما يوجب قتلها، قاله الزجاج .
وقد فرق بعضهم بين الزاكية والزكية، فروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية: التي أذنبت ثم تابت . وروي عن أبي عبيدة أنه قال: الزاكية في البدن، والزكية في الدين .
قوله تعالى: " بغير نفس " ; أي: بغير قتل نفس، " لقد جئت شيئا نكرا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( نكرا ) خفيفة في كل القرآن، إلا قوله: إلى شيء نكر [ القمر: 6 ]، وخفف ابن كثير أيضا ( إلى شيء نكر ) . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: ( نكرا ) و( إلى شيء نكر ) مثقل . والمخفف إنما هو من المثقل، كالعنق والعنق، والنكر والنكر . قال الزجاج: والمعنى: لقد أتيت شيئا نكرا . ويجوز أن يكون معناه: جئت بشيء نكر، فلما حذف الباء أفضى الفعل فنصب نكرا . و " نكرا " أقل منكرا من قوله: " إمرا " ; لأن تغريق من في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس واحدة .
قوله تعالى: " قال ألم أقل لك " .
إن قيل: لم ذكر لك " هاهنا واختزله من الموضع الذي قبله ؟
فالجواب: أن إثباته للتوكيد واختزاله لوضوح المعنى، وكلاهما معروف [ ص: 174 ] عند الفصحاء . تقول العرب: قد قلت لك: اتق الله، وقد قلت لك: يا فلان اتق الله، وأنشد ثعلب:
قد كنت حذرتك آل المصطلق وقلت يا هذا أطعني وانطلق
فقوله: يا هذا، توكيد لا يختل الكلام بسقوطه . وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول: وقره في الأول، فلم يواجهه بكاف الخطاب، فلما خالف في الثاني واجهه بها .
قوله تعالى: " إن سألتك عن شيء " ; أي: سؤال توبيخ وإنكار، " بعدها " ; أي: بعد هذه المسألة، " فلا تصاحبني " وقرأ كذلك معاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو المتوكل، والأعرج، إلا أنهم شددوا النون . قال الزجاج: ومعناه: إن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك . وقرأ أبي بن كعب، وابن أبي عبلة، ويعقوب: ( فلا تصحبني ) بفتح التاء من غير ألف . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والأعمش كذلك، إلا أنهم شددوا النون . وقرأ أبو رجاء، وأبو عثمان النهدي، والنخعي، والجحدري: ( تصحبني ) بضم التاء وكسر الحاء وسكون الصاد والباء . قال الزجاج: فيهما وجهان:
أحدهما: لا تتابعني في شيء ألتمسه منك، يقال: قد أصحب المهر: إذا انقاد .
والثاني: لا تصحبني علما من علمك .
" قد بلغت من لدني " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( من لدني ) مثقل . وقرأ نافع: ( من لدني ) بضم الدال مع تخفيف النون . وروى أبو بكر عن عاصم: ( من لدني ) بفتح اللام مع تسكين الدال . وفي رواية أخرى عن عاصم ( لدني ) بضم اللام وتسكين الدال . قال الزجاج: [ ص: 175 ] وأجودها تشديد النون ; لأن أصل ( لدن ) الإسكان، فإذا أضفتها إلى نفسك زدت نونا، ليسلم سكون النون الأولى، تقول: من لدن زيد، فتسكن النون ثم تضيف إلى نفسك فتقول: من لدني، كما تقول: عن زيد وعني . فأما إسكان دال ( لدني ) فإنهم أسكنوها، كما تقول في عضد: عضد، فيحذفون الضم . قال ابن عباس: يريد: إنك قد أعذرت فيما بيني وبينك، يعني: أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا .
قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية " فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها أنطاكية، قاله ابن عباس . والثاني: الأبلة، قاله ابن سيرين . والثالث: باجروان، قاله مقاتل .
قوله تعالى: " استطعما أهلها " ; أي: سألاهم الضيافة، " فأبوا أن يضيفوهما " روى المفضل عن عاصم: ( يضيفوهما ) بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية . وقرأ أبو الجوزاء كذلك، إلا أنه فتح الياء [ الأولى ] . وقرأ الباقون: ( يضيفوهما ) بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها . قال أبو عبيدة: ومعنى " يضيفوهما " : ينزلوهما منزل الأضياف، يقال: ضفت أنا، وأضافني الذي ينزلني . وقال الزجاج: يقال: ضفت الرجل: إذا نزلت عليه، وأضفته: إذا أنزلته وقريته . وقال ابن قتيبة: [ يقال ]: ضيفت الرجل: إذا أنزلته منزلة الأضياف، ومنه هذه الآية، وأضفته: أنزلته، وضفته: نزلت عليه . وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " كانوا أهل قرية لئاما " .
قوله تعالى: " فوجدا فيها جدارا " ; أي: حائطا . قال ابن فارس: وجمعه [ ص: 176 ] جدر، والجدر: أصل الحائط . ومنه حديث الزبير: " ثم دع الماء يرجع إلى الجدر " ، والجيدر: القصير .
قول تعالى: " يريد أن ينقض " وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء: ( ينقاض ) بألف ممدودة وضاد معجمة . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: ( ينقاص ) بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكله بلا تشديد . قال الزجاج: فمعنى ينقض: يسقط بسرعة، وينقاص غير معجمة: ينشق طولا، يقال: انقاصت سنه: إذا انشقت . قال ابن مقسم: انقاصت سنه، وانقاضت - بالصاد والضاد -على معنى واحد .
فإن قيل: كيف نسبت الإرادة إلى ما لا يعقل ؟
فالجواب: أن هذا على وجه المجاز تشبيها بمن يعقل، ويريد: لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالإرادة ; إذ كانت الصورتان واحدة، وقد أضافت العرب الأفعال إلى ما لا يعقل تجوزا، قال الله عز وجل: ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف: 154 ]، والغضب لا يسكت، وإنما يسكت صاحبه، وقال: فإذا عزم الأمر [ محمد: 21 ]، وأنشدوا من ذلك:
إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان
وقال آخر: [ ص: 177 ]
يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل
وقال آخر:
ضحكوا والدهر عنهم ساكت ثم أبكاهم دما لما نطق
وقال آخر:
يشكو إلي جملي طول السرى [ صبرا جميلا فكلانا مبتلى ]
وهذا كثير في أشعارهم .
قوله تعالى: " فأقامه " ; أي: سواه ; لأنه وجده مائلا .
وفي كيفية ما فعل قولان: أحدهما: أنه دفعه بيده فقام . والثاني: هدمه ثم قعد يبنيه، روي القولان عن ابن عباس .
قوله تعالى: " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( لتخذت ) بكسر الخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها . وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( لاتخذت ) وكلهم أدغموا، إلا حفصا عن عاصم، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير . قال الزجاج: يقال: تخذ يتخذ في معنى: اتخذ يتخذ . وإنما قال له هذا ; لأنهم لم يضيفوهما .
قوله تعالى: " قال " يعني: الخضر، " هذا " يعني: الإنكار علي، " فراق بيني وبينك " ; أي: هو المفرق بيننا . قال الزجاج: المعنى: هذا فراق بيننا ; [ ص: 178 ] أي: فراق اتصالنا، وكرر ( بين ) توكيدا، ومثله في الكلام: أخزى الله الكاذب مني ومنك . وقرأ أبو رزين، وابن السميفع، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: ( هذا فراق ) بالتنوين ( بيني وبينك ) بنصب النون . قال ابن عباس: كان قول موسى في السفينة والغلام لربه، وكان قوله في الجدار لنفسه، لطلب شيء من الدنيا .


