قوله تعالى: " فحملته " يعني: عيسى .
وفي كيفية حملها له قولان:
أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب درعها، فاستمر بها حملها، رواه عن سعيد بن جبير قال ابن عباس . نفخ في جيب درعها وكان مشقوقا من قدامها، فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها . السدي:
والثاني: الذي خاطبها هو الذي حملته، ودخل من فيها، قاله [ ص: 219 ] أبي بن كعب .
وفي مقدار حملها سبعة أقوال:
أحدها: أنها حين حملت وضعت، قاله والمعنى: أنه ما طال حملها، وليس المراد أنها وضعته في الحال ; لأن الله تعالى يقول: " ابن عباس، فحملته فانتبذت به " ، وهذا يدل على أن بين الحمل والوضع وقتا يحتمل الانتباذ به .
والثاني: أنها حملته تسع ساعات ووضعت من يومها، قاله الحسن .
والثالث: تسعة أشهر، قاله سعيد بن جبير وابن السائب .
والرابع: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، قاله مقاتل بن سليمان .
والخامس: ثمانية أشهر، فعاش، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر، فكان في هذا آية، حكاه الزجاج .
والسادس: في ستة أشهر، حكاه الماوردي .
والسابع: في ساعة واحدة، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى: " فانتبذت به " يعني: بالحمل، " مكانا قصيا " ; أي: بعيدا . وقرأ ابن مسعود ( قاصيا ) . قال وابن أبي عبلة: مشت ستة أميال . قال ابن إسحاق: القصي والقاصي بمعنى واحد . وقال غير الفراء: القصي والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد . وإنما بعدت فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج . الفراء:
قوله تعالى: " فأجاءها المخاض " وقرأ عكرمة، وإبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري: ( المخاض ) بكسر الميم . قال المعنى: فجاء بها المخاض، فلما ألقيت الباء، جعلت في الفعل ألفا، ومثله: الفراء: آتنا غداءنا [ الكهف: 63 ] ; أي: [ ص: 220 ] بغدائنا، ومثله: آتوني زبر الحديد [ الكهف: 96 ] ; أي: بزبر الحديد . قال أفعلها من جاءت هي، وأجاءها غيرها . وقال أبو عبيدة: المعنى: جاء بها وألجأها، وهو من حيث يقال: جاءت بي الحاجة إليك، وأجاءتني الحاجة إليك . والمخاض: الحمل . وقال غيره: المخاض: وجع الولادة . " ابن قتيبة: إلى جذع النخلة " وهو ساق النخلة، وكانت نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا سعف . " قالت يا ليتني مت قبل هذا " اليوم أو هذا الأمر . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: ( مت ) بكسر الميم .
وفي سبب قولها هذا قولان:
أحدهما: أنها قالته حياء من الناس . والثاني: لئلا يأثموا بقذفها .
قوله تعالى: " وكنت نسيا منسيا " قرأ ابن كثير، ونافع، ، وأبو عمرو وابن عامر، والكسائي، عن وأبو بكر بكسر النون . وقرأ عاصم حمزة، وحفص عن ( نسيا ) بفتح النون . قال عاصم: وأصحاب الفراء: يقرؤون: ( نسيا ) بفتح النون، وسائر عبد الله العرب بكسرها، وهما لغتان، مثل: الجسر والجسر، والوتر والوتر، والفتح أحب إلي . قال الكسر على اللغتين . وقال أبو علي الفارسي: من كسر النون قال: النسي: اسم لما ينسى، بمنزلة البغض اسم لما يبغض، والسب اسم لما يسب، والنسي بفتح النون: اسم لما ينسى أيضا، على أنه مصدر ناب عن الاسم، كما يقال: الرجل دنف ودنف، فالمكسور هو الوصف الصحيح، والمفتوح مصدر سد مسد الوصف، ويمكن أن يكون النسي والنسي اسمين لمعنى، كما يقال: الرطل والرطل . ابن الأنباري:
وللمفسرين في قوله تعالى: " نسيا منسيا " خمسة أقوال: [ ص: 221 ]
أحدها: يا ليتني لم أكن شيئا، قاله عن الضحاك وبه قال ابن عباس، عطاء وابن زيد .
والثاني: " وكنت نسيا منسيا " ; أي: دم حيضة ملقاة، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، قال وعكرمة . النسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها . وقال الفراء: هي خرق الحيض تلقيها المرأة، فلا تطلبها ولا تذكرها . ابن الأنباري:
والثالث: [ أنه من ] السقط، قاله أبو العالية والربيع .
والرابع: أن المعنى: يا ليتني لا يدرى من أنا، قاله قتادة .
والخامس: أنه الشيء التافه يرتحل عنه القوم، فيهون عليهم فلا يرجعون إليه، قاله وقال ابن السائب . النسي والمنسي: ما ينسى من إداوة وعصا، يعني: أنه ينسى في المنزل، فلا يرجع إليه لاحتقار صاحبه إياه . وقال أبو عبيدة: معنى الآية: ليتني كنت ما إذا ذكر لم يطلب . الكسائي:
قوله تعالى: " فناداها من تحتها " قرأ ابن كثير، ، وأبو عمرو وابن عامر، عن وأبو بكر ( من تحتها ) بفتح الميم والتاء . وقرأ عاصم: نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن ( من تحتها ) بكسر الميم والتاء . فمن قرأ بكسر الميم ففيه وجهان: أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة . وقيل: كانت على نشز، فناداها الملك أسفل منها . والثاني: ناداها عاصم: عيسى لما خرج من بطنها . قال كل ما رفعت إليه طرفك فهو فوقك، وكل ما خفضت إليه طرفك فهو تحتك . ومن قرأ بفتح الميم ففيه الوجهان المذكوران . وكان ابن عباس: يقول: ما خاطبها إلا الملك على القراءتين جميعا . الفراء
قوله تعالى: " قد جعل ربك تحتك سريا " فيه قولان:
[ ص: 222 ] أحدهما: أنه النهر الصغير، قاله جمهور المفسرين واللغويون، قال أبو صالح هو الجدول بالسريانية . وابن جريج:
والثاني: أنه عيسى، كان سريا من الرجال، قاله الحسن، [ وعكرمة، ] . قال وابن زيد وقد رجع ابن الأنباري: عن هذا القول إلى القول الأول، ولو كان وصفا الحسن لعيسى، كان غلاما سريا أو سويا من الغلمان، وقلما تقول العرب: رأيت عندك نبيلا، حتى يقولوا: رجلا نبيلا .
فإن قيل: كيف ناسب تسليتها أن قيل: لا تحزني، فهذا نهر يجري ؟
فالجواب من وجهين: أحدهما: أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه، وعدم الطعام والشراب، والماء الذي تتطهر به، فقيل: لا تحزني قد أجرينا لك نهرا، وأطلعنا لك رطبا، قاله عن أبو صالح ابن عباس .
والثاني: أنها حزنت لما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج، فأجرى الله تعالى لها نهرا، فجاءها من الأردن، وأخرج لها الرطب من الشجرة اليابسة، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله تعالى في إيجاد عيسى، قاله مقاتل .
قوله تعالى: " وهزي إليك " الهز: التحريك .
والباء في قوله تعالى: " بجذع النخلة " فيها قولان:
أحدهما: أنها زائدة مؤكدة، كقوله تعالى: فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج: 15 ]، قال معناه: فليمدد سببا . الفراء: والعرب تقول: هزه وهز به، وخذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلق زيدا وتعلق به . وقال هي مؤكدة، كقول الشاعر: أبو عبيدة:
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
[ ص: 223 ] والثاني: أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهز، فهي مفيدة للإلصاق، قاله ابن الأنباري .
قوله تعالى: " تساقط " قرأ ابن كثير، ونافع، ، وأبو عمرو وابن عامر، والسكائي، عن وأبو بكر ( تساقط ) بالتاء مشددة السين . وقرأ عاصم: حمزة ( تساقط ) بالتاء مفتوحة مخففة السين . وقرأ وعبد الوارث: حفص عن ( تساقط ) بضم التاء وكسر القاف مخففة السين . وقرأ عاصم: يعقوب وأبو زيد عن ( يساقط ) بالياء مفتوحة وتشديد السين وفتح القاف، فهذه القراءات المشاهير . وقرأ المفضل: أبي بن كعب وأبو حيوة: ( تسقط ) بفتح التاء وسكون السين ورفع القاف . وقرأ عبد الله بن عمرو، وعائشة، ( يساقط ) بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف . وقرأ والحسن: الضحاك ( يسقط ) برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف . وقرأ وعمرو بن دينار: عاصم الجحدري مثله، إلا أنه بالتاء . وقرأ وأبو عمران الجوني معاذ القارئ مثله، إلا أنه بالنون . وقرأ وابن يعمر أبو رزين العقيلي ( يسقط ) بالياء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف . وقرأ وابن أبي عبلة: أبو السماك العدوي وابن حزام: ( تتساقط ) بتاءين مفتوحين وبألف . وقال من قرأ: ( يساقط )، فالمعنى: يتساقط، فأدغمت التاء في السين . ومن قرأ: ( تساقط ) فكذلك أيضا، وأنث لأن لفظ النخلة يؤنث . ومن قرأ: ( تساقط ) بالتاء والتخفيف، فإنه حذف من ( تتساقط ) اجتماع التاءين . ومن قرأ: ( يساقط ) ذهب إلى معنى: يساقط الجذع عليك . ومن قرأ: ( نساقط ) بالنون، فالمعنى: نحن نساقط عليك، فنجعله لك آية . والنحويون يقولون: [ ص: 224 ] إن " الزجاج: رطبا " منصوب على التمييز إذا قلت: يساقط أو يتساقط، المعنى: يتساقط الجزع رطبا . وإذا قلت: تساقط بالتاء، فالمعنى: تتساقط النخلة رطبا .
قوله تعالى: " جنيا " قال الجني: المجتنى . وقال الفراء: هو الطري، والأصل: مجنو، صرف من مفعول إلى فعيل، كما يقال: قديد وطبيخ . وقال غيره: هو الطري بغباره . ولم يكن لتلك النخلة رأس، فأنبته الله تعالى، فلما وضعت يدها عليها، سقط الرطب رطبا . وكان السلف يستحبون للنفساء الرطب من أجل ابن الأنباري: مريم عليها السلام .
قوله تعالى: " فكلي " ; أي: من الرطب، " واشربي " من النهر، " وقري عينا " بولادة عيسى عليه السلام . قال يقال: قررت به عينا أقر، بفتح القاف في المستقبل، وقررت في المكان أقر، بكسر القاف، " وعينا " منصوب على التمييز . وروى الزجاج: عن ابن الأنباري أنه قال: معنى " الأصمعي وقري عينا " : ولتبرد دمعتك ; لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة . واشتقاق " قري " من القرور، وهو الماء البارد . وقال لنا أحمد بن يحيى: تفسير " قري عينا " : بلغت غاية أملك حتى تقر عينك من الاستشراف إلى غيره، واحتج بقول عمرو بن كلثوم:
بيوم كريهة ضربا وطعنا أقر به مواليك العيونا
أي: ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم، فقرت عينهم من تطلع إلى غيره .
قوله تعالى: " فإما ترين " وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: ( ترئن ) بهمزة مكسورة من غير ياء ; أي: إن رأيت من البشر أحدا فقولي، وفيه إضمار تقديره: فسألك عن أمر ولدك . " فقولي إني نذرت للرحمن صوما " فيه قولان: [ ص: 225 ]
أحدهما: صمتا، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، وكذلك قرأ والضحاك، أبي بن كعب، وأنس بن مالك، وأبو رزين العقيلي: ( صمتا ) مكان قوله: " صوما " . وقرأ ( صياما ) . ابن عباس:
والثاني: صوما عن الطعام والشراب والكلام، قاله وقال قتادة . ابن زيد: كان المجتهد من بني إسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إلا من ذكر الله عز وجل . قال فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت . قال السدي: أمرت بالصمت ; لأنها لم تكن لها حجة عند الناس، فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها مما يبرئ بها ساحتها . وقيل: كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس . قال ابن مسعود: الصوم في لغة ابن الأنباري: العرب على أربعة معان، يقال: صوم لترك الطعام والشراب، وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذرق النعام .
واختلف العلماء في مقدار سن مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ولدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبه .
والثاني: بنت اثنتي عشرة سنة، قاله زيد بن أسلم .
والثالث: بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل .