ويقال لها: سورة داود، وهي مكية [كلها] بإجماعهم
فأما سبب نزول أولها، فروى عن سعيد بن جبير ابن عباس قريشا شكوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: "يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي إليهم الجزية بها العجم"، قال: كلمة؟ قال: "كلمة واحدة"، قال: ما هي؟ قال: "لا إله إلا الله"، فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا؟! فنزلت فيهم: ص والقرآن إلى قوله: إن هذا إلا اختلاق . أن
بسم الله الرحمن الرحيم
ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق . كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص .
[ ص: 97 ] واختلفوا في معنى "ص" على سبعة أقوال .
أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني: أنه بمعنى: صدق محمد، رواه عن عطاء ابن عباس .
والثالث: صدق الله، قاله وقد روي عن الضحاك . أنه قال: معناه: صادق فيما وعد . وقال ابن عباس : معناه: الصادق الله تعالى . الزجاج
والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، أقسم الله به، قاله قتادة .
والخامس: أنه اسم حية رأسها تحت العرش وذنبها تحت الأرض السفلى، حكاه وقال: أظنه عن أبو سليمان الدمشقي، عكرمة .
والسادس: أنه بمعنى: حادث القرآن، أي: انظر فيه، قاله وهذا على قراءة من كسروا، منهم الحسن، ابن عباس، [والحسن]، قال وابن أبي عبلة . فيكون المعنى: صاد بعملك القرآن، أي: عارضه . وقيل: اعرضه على عملك، فانظر أين هو [منه] . ابن جرير:
والسابع: أنه بمعنى: صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به وأحبوه، حكاه وهذا على قراءة من فتح، وهي قراءة الثعلبي، أبي رجاء، [ ص: 98 ] وأبي الجوزاء، وحميد، ومحبوب عن قال أبي عمرو . : والقراءة "صاد" بتسكين الدال، لأنها من حروف التهجي . وقد قرئت بالفتح وبالكسر; فمن فتحها، فعلى ضربين . أحدهما: لالتقاء الساكنين . والثاني: على معنى: أتل "صاد"، ويكون [صاد] اسما للسورة ينصرف; ومن كسر، فعلى ضربين . أحدهما: لالتقاء الساكنين أيضا . والثاني: على معنى: صاد القرآن بعملك، من قولك: صادى يصادي: إذا قابل وعادل، يقال: صاديته: إذا قابلته . الزجاج
قوله تعالى: ذي الذكر في المراد بالذكر ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الشرف، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، والثاني: البيان، قاله والسدي . والثالث: التذكير، قاله قتادة . الضحاك .
فإن قيل: أين جواب القسم بقوله: "ص والقرآن ذي الذكر"؟
فعنه خمسة أجوبة .
أحدها: أن "ص" جواب لقوله: "والقرآن"، فـ "ص" في معناها، كقولك: وجب والله، نزل والله، حق والله، قاله الفراء، وثعلب .
[ ص: 99 ] والثاني: أن جواب "ص" قوله: "كم أهلكنا من قبلهم من قرن"، ومعناه: لكم، فلما طال الكلام، حذفت اللام، ومثله، والشمس وضحاها قد أفلح [الشمس: 1 و 9]، فإن المعنى: لقد أفلح، غير أنه لما اعترض بينهما كلام، تبعه قوله: "قد أفلح"، حكاه الفراء، وثعلب أيضا .
والثالث: أنه قوله: "إن كل إلا كذب الرسل" [ص: 14]، حكاه الأخفش .
والرابع: أنه قوله: "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار" [ص: 64]، قاله وقال الكسائي، لا نجده مستقيما في العربية، لتأخره جدا عن قوله: "والقرآن" . الفراء:
والخامس: أن جوابه محذوف، تقديره: والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار، ويدل على هذا المحذوف قوله: بل الذين كفروا في عزة وشقاق ، ذكره جماعة من المفسرين، وإلى نحوه ذهب والعزة: الحمية والتكبر عن الحق . وقرأ قتادة . عمرو بن العاص، وأبو رزين ، وابن يعمر، وعاصم الجحدري، ومحبوب عن "في غرة" بغين معجمة وراء غير معجمة . والشقاق: الخلاف والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق بيان الكلمتين مشروحا [البقرة: 206، 138] . أبي عمرو:
ثم خوفهم بقوله: كم أهلكنا من قبلهم من قرن يعني الأمم الخالية فنادوا عند وقوع الهلاك بهم . وفي هذا النداء قولان . أحدهما: أنه الدعاء . والثاني: الاستغاثة .
[ ص: 100 ] قوله تعالى: ولات حين مناص وقرأ الضحاك، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، "ولات حين" بفتح التاء ورفع النون . قال وابن يعمر: ليس حين يروه فرار . وقال ابن عباس: في لغة أهل عطاء: اليمن "لات" بمعنى "ليس" . وقال هي بالسريانية . وقال وهب بن منبه: "لات" بمعنى "ليس"، والمعنى: ليس بحين فرار . ومن القراء من يخفض "لات"، والوجه النصب، لأنها في معنى "ليس"، أنشدني المفضل: الفراء:
تذكر حب ليلى لات حينا وأضحى الشيب قد قطع القرينا
قال كان ابن الأنباري: الفراء والكسائي والخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن التاء في قوله: "ولات" منقطعة من "حين" قال: وقال وأبو عبيدة الوقف عندي على هذا الحرف "ولا"، والابتداء "تحين" لثلاث حجج . أبو عبيدة:
إحداهن: أن تفسير يشهد لها، لأنه قال: ليس حين يروه فرار; فقد علم أن "ليس" هي أخت "لا" وفي معناها . ابن عباس
والحجة الثانية: أنا لا نجد في شيء من كلام العرب "ولات"، إنما المعروفة "لا" .
والحجة الثالثة: أن هذه التاء، إنما وجدناها تلحق مع "حين" ومع "الآن" ومع الـ "أوان"، فيقولون: كان هذا تحين كان ذلك، وكذلك: "تأوان"، ويقال: اذهب تلان، ومنه قول أبي وجزة السعدي: [ ص: 101 ]
العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم
وذكر عن ابن قتيبة أن معنى هذا البيت: "العاطفونه" بالهاء، ثم تبتدئ: "حين ما من عاطف"; قال ابن الأعرابي وهذا غلط، لأن الهاء إنما تقحم على النون في مواضع القطع والسكون، فأما مع الاتصال، فإنه غير موجود . وقال ابن الأنباري: النحويون يقولون في قوله: "ولات" هي "لا" زيدت فيها التاء، كما قالوا: ثم وثمت، ورب وربت، وأصلها هاء وصلت بـ "لا"، فقالوا: "لاه"، فلما وصلوها، جعلوها تاء; والوقف عليها بالتاء عند علي بن أحمد النيسابوري: الزجاج، وأبي علي، وعند بالهاء، وعند الكسائي أبي عبيد الوقف على "لا" .
فأما المناص، فهو الفرار . قال النوص في كلام الفراء: العرب: التأخر، والبوص: التقدم، قال امرؤ القيس:
أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص فتقصر عنها خطوة وتبوص
[ ص: 102 ] وقال المناص: مصدر ناص ينوص، وهو المنجى والفوز . أبو عبيدة: