قوله تعالى ثلة من الأولين الثلة: الجماعة غير محصورة العدد .
وفي الأولين والآخرين ها هنا ثلاثة أقوال .
أحدها: أن الأولين: الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم، والآخرون: هذه الأمة .
والثاني: [أن الأولين]: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخرين: التابعون .
والثالث: أن الأولين [والآخرين: من] أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
فعلى الأول يكون المعنى: إن الأولين السابقين جماعة من الأمم المتقدمة الذين سبقوا بالتصديق لأنبيائهم من جاء بعدهم مؤمنا، وقليل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين نبينا وصدق به .
[ ص: 135 ] وعلى الثاني: أن السابقين: جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأولون من المهاجرين والأنصار، وقليل من التابعين وهم الذين اتبعوهم بإحسان .
وعلى الثالث: أن السابقين: الأولون من المهاجرين والأنصار، وقليل ممن جاء بعدهم لعجز المتأخرين أن يلحقوا الأولين، فقليل منهم من يقاربهم في السبق .
وأما "الموضونة" فقال هي المنسوجة، كأن بعضها أدخل في بعض، أو نضد بعضها على بعض، ومنه قيل للدرع: موضونة، ومنه قيل: وضين الناقة، وهو بطان من سيور يدخل بعضه في بعض . قال ابن قتيبة: سمعت بعض الفراء: العرب يقول: الآجر موضون بعضه على بعض، أي: مشرج .
وللمفسرين في معنى "موضونة" قولان .
أحدهما: مرمولة بالذهب، رواه عن مجاهد وقال ابن عباس . مشبكة بالدر والياقوت، وهذا معنى ما ذكرناه عن عكرمة: وبه قال الأكثرون . ابن قتيبة،
والثاني: مصفوفة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
وما بعد هذا قد تقدم بيانه [الكهف: 30] إلى قوله: ولدان مخلدون الولدان: الغلمان . وقال هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيجزون بها، ولا سيئات فيعاقبون عليها، فوضعوا بهذا الموضع . الحسن البصري:
وفي المخلدين قولان .
أحدهما: أنه من الخلد; والمعنى: أنهم مخلوقون للبقاء لا يتغيرون، وهم على سن واحد . قال الفراء: والعرب تقول للإنسان إذا كبر ولم يشمط: أو لم تذهب أسنانه عن الكبر: إنه لمخلد، هذا قول الجمهور . [ ص: 136 ] والثاني: أنهم المقرطون، ويقال: المسورون، ذكره الفراء، وأنشدوا في ذلك: وابن قتيبة،
ومخلدات باللجين كأنما أعجازهن أقاوز الكثبان
قوله تعالى: بأكواب وأباريق الكوب: إناء لا عروة له ولا خرطوم، وقد ذكرناه في [الزخرف: 72]; والأباريق: آنية لها عرى وخراطيم; وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الإبريق: فارسي معرب، وترجمته من الفارسية أحد شيئين، إما أن يكون: طريق الماء، أو: صب الماء على هينة، وقد تكلمت به العرب قديما، قال عدي بن زيد:
ودعا بالصبوح يوما فجاءت قينة في يمينها إبريق
وباقي الآيات في [الصافات: 46] .
قوله تعالى: لا يصدعون عنها ولا ينزفون فيه قولان .
أحدهما: لا يلحقهم الصداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا . و"عنها" كناية عن الكأس المذكور، والمراد بها: الخمر، وهذا قول الجمهور .
والثاني: لا يتفرقون عنها، من قولك: صدعته فانصدع، حكاه ابن قتيبة . ولا "ينزفون" مفسر في [الصافات: 47] .
[ ص: 137 ] قوله تعالى مما يتخيرون أي: يختارون، تقول: تخيرت الشيء: إذا أخذت خيره .
قوله تعالى: ولحم طير قال يخطر على قلبه الطير، فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى . وقال ابن عباس: مغيث بن سمي: تقع على أغصان شجرة طوبى طير كأمثال البخت، فإذا اشتهى الرجل طيرا دعاه، فيجيء حتى يقع على خوانه، فيأكل من أحد جانبيه قديدا والآخر شواء، ثم يعود طيرا فيطير فيذهب .
قوله تعالى: وحور عين قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، "وحور عين" بالرفع فيهما . وقرأ وابن عامر: ، أبو جعفر وحمزة، والكسائي، والمفضل عن بالخفض فيهما . وقرأ عاصم: ، أبي بن كعب وعائشة، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: "وحورا عينا" بالنصب فيهما . قال والذين رفعوا كرهوا الخفض، لأنه معطوف على قوله: الزجاج: يطوف عليهم ، قالوا: والحور ليس مما يطاف به، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء، لأن المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بها، وكذلك ينعمون بلحم طير، فكذلك ينعمون بحور عين، والرفع أحسن، والمعنى: ولهم حور عين; ومن قرأ "وحورا عينا" حمله على المعنى، لأن المعنى: يعطون هذه الأشياء ويعطون حورا عينا، إلا أنها تخالف المصحف فتكره . ومعنى "كأمثال اللؤلؤ" أي: صفاؤهن وتلألؤهن كصفاء اللؤلؤ وتلألئه . والمكنون: الذي لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال، فهن كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه .
[ ص: 138 ] "جزاء" منصوب مفعول له; والمعنى: يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مصدر، لأن معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون : يجازون جزاء بأعمالهم; وأكثر النحويين على هذا الوجه .
وقوله تعالى: لا يسمعون فيها لغوا قد فسرنا معنى اللغو والسلام في سورة [مريم: 62] ومعنى التأثيم في [الطور: 23] ومعنى "ما أصحاب اليمين" في أول هذه السورة [الواقعة: 9] .
فإن قيل: التأثيم لا يسمع فكيف ذكره مع المسموع؟
فالجواب: أن العرب يتبعون آخر الكلام أوله، وإن لم يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر، فيقولون: أكلت خبزا ولبنا، واللبن لا يؤكل، إنما حسن هذا لأنه كان مع ما يؤكل، قال أنشدني بعض الفراء: العرب:
إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا
قال:
والعين لا تزجج إنما تكحل، فردها على الحاجب لأن المعنى يعرف، وأنشدني آخر:
ولقيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
وأنشدني آخر:
علفتها تبنا وماء باردا
والماء لا يعلف وإنما يشرب، فجعله تابعا للتبن; قال وهذا [هو] [ ص: 139 ] وجه قراءة من قرأ، "وحور عين" بالخفض، لإتباع آخر الكلام أوله، وهو وجه العربية . الفراء: