قوله تعالى: إنا بلوناهم يعني: أهل مكة، أي: ابتليناهم بالجوع، والقحط كما بلونا أصحاب الجنة حين هلكت جنتهم .
وهذه الإشارة إلى قصتهم
ذكر أهل التفسير أن رجلا كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمنا . وذلك بعد عيسى بن مريم عليهما السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدق بالباقي . وقيل: كان يترك للمساكين ما تعداه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدراس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاث بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإنما كان أبونا يفعل هذا إذ كان المال كثيرا، والعيال قليلا، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا . فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدن قبل خروج الناس، فليصرمن نخلهم، فذلك قوله تعالى: إذ أقسموا أي: حلفوا "ليصرمنها" أي: ليقطعن نخلهم مصبحين أي: في أول الصباح . وقد بقيت من الليل ظلمة لئلا يبقى للمساكين شيء .
وفي قوله تعالى: ولا يستثنون قولان .
أحدهما: لا يقولون: إن شاء الله، قاله الأكثرون .
[ ص: 336 ] والثاني: لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة "فطاف عليها طائف من ربك" أي: من أمر ربك . قال الطائف لا يكون إلا بالليل . قال المفسرون: بعث الله عليها نارا بالليل، فاحترقت، فصارت سوداء، فذلك قوله تعالى: الفراء: فأصبحت كالصريم وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها: كالرماد الأسود، قاله ابن عباس .
والثاني: كالليل المسود، قاله وكذلك قال الفراء . أصبحت سوداء كالليل محترقة . والليل: هو الصريم، والصبح أيضا: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه . ابن قتيبة:
والثالث: أصبحت وقد ذهب ما فيها من الثمر، فكأنه قد صرم، أي: قطع، وجذ حكاه أيضا . ابن قتيبة
قوله تعالى: فتنادوا مصبحين أي: نادى بعضهم بعضا لما أصبحوا "أن اغدوا على حرثكم" يعني: الثمار والزروع والأعناب "إن كنتم صارمين" أي: قاطعين للنخل، "فانطلقوا" أي: ذهبوا إلى جنتهم "وهم يتخافتون" قال يتساررون بـ "أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد" فيه ثمانية أقوال . ابن قتيبة:
أحدهما: على قدرة، قاله ابن عباس .
والثاني: على فاقة، قاله في رواية . الحسن
والثالث: على جد، قاله في رواية، الحسن وقتادة، وأبو العالية، والفراء، ومقاتل .
والرابع: على أمر مجمع قد أسسوه بينهم، قاله مجاهد، وعكرمة .
والخامس: أن الحرد: اسم الجنة، قاله السدي .
[ ص: 337 ] والسادس: أنه الحنق والغضب على المساكين، قاله الشعبي، وأنشد وسفيان . أبو عبيدة:
أسود شرى لاقت أسود خفية تساقوا على حرد دماء الأساود
والسابع: أنه المنع مأخوذ من حاردت السنة فليس فيها مطر، وحاردت الناقة فليس لها لبن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة:
والثامن: أنه القصد . يقال: حردت حردك، أي: قصدت قصدك، حكاه الفراء، وأبو عبيدة، وأنشدوا: وابن قتيبة .
قد جاء سيل كان من أمر الله يحرد حرد الجنة المغله
أي: يقصد قصدها . قال وفيها لغتان: حرد، وحرد، كما يقال: الدرك، والدرك، [ ص: 338 ] وفي قوله تعالى: ابن قتيبة: قادرين ثلاثة أقوال .
أحدها: قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله قتادة .
والثاني: قادرين على المساكين، قاله والثالث: أن المعنى: منعوا وهم قادرون، أي: واجدون، قاله الشعبي . قالوا: ابن قتيبة . "فلما رأوها" محترقة "قالوا إنا لضالون" أي: قد ضللنا طريق جنتنا، فليست هذه . ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: "بل نحن محرومون" أي: حرمنا ثمر جنتنا بمنعنا المسكين "قال أوسطهم" أي: أعدلهم، وأفضلهم "لولا" أي: هلا "تسبحون" وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها: هلا تستثنون عند قولكم: "ليصرمنها مصبحين" قاله والجمهور . والمعنى: هلا قلتم: إن شاء الله . قال ابن جريج وإنما قيل للاستثناء: تسبيح، لأن التسبيح في اللغة: تنزيه الله عز وجل عن السوء . والاستثناء تعظيم لله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلا بمشيئة الله . الزجاج:
والثاني: أنه كان استثناؤهم قول: "سبحان الله "قاله أبو صالح .
والثالث: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم، حكاه الثعلبي .
وقوله تعالى: قالوا سبحان ربنا فنزهوه أن يكون ظالما فيما صنع، وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا: "إنا كنا ظالمين" بمنعنا المساكين "فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون" أي: يلوم بعضهم بعضا في منع المساكين حقوقهم . يقول هذا [ ص: 339 ] لهذا: أنت أشرت علينا، ويقول الآخر: أنت فعلت، ثم نادوا على أنفسهم بالويل، فقالوا: "يا ويلنا إنا كنا طاغين" حين لم نصنع ما صنع آباؤنا، ثم رجعوا إلى الله تعالى فسألوه أن يبدلهم خيرا منها، فذلك قوله: عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها . وقرأ قوم: "يبدلنا" بالتخفيف، وهما لغتان . وفرق قوم بينهما، فقالوا: التبديل: تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية . والإبدال: إزالة الشيء ووضع غيره مكانه . ونقل أن القوم أخلصوا، فبدلهم الله جنة العنقود منها وقر بغل .
قوله تعالى: كذلك العذاب ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا . وها هنا انتهت قصة أهل الجنة . ثم قال تعالى: ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون يعني: المشركين . ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا فقال المشركون: إنا لنعطى في الآخرة أفضل مما تعطون، فقال تعالى مكذبا لهم أفنجعل المسلمين كالمجرمين قال هذه ألف الاستفهام مجازها ها هنا مجاز التوبيخ، والتقرير . الزجاج:
قوله تعالى: كيف تحكمون أي: كيف تقضون بالجور أم لكم كتاب أنزل من عند الله "فيه" هذا تدرسون أي: تقرؤون ما فيه "إن لكم" في ذلك الكتاب "لما تخيرون" أي: ما تختارون وتشتهون . وقرأ أبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: أن لكم بفتح الهمزة . وهذا تقريع لهم، وتوبيخ على ما يتمنون من الباطل "سلهم أيهم بذلك زعيم" "أم لكم أيمان علينا بالغة" أي: ألكم عهود على الله تعالى حلف لكم على ما تدعون بأيمان بالغة، أي: مؤكدة . وكل شيء متناه في الجودة والصحة فهو بالغ . ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها "إن لكم لما تحكمون" لأنفسكم به من الخير والكرامة عند [ ص: 340 ] الله تعالى . قال والقراء على رفع بالغة إلا الفراء: فإنه نصبها على مذهب المصدر، كقوله تعالى: الحسن حقا [الروم: 47] . ومعنى الآية: هل لكم أيمان علينا بالغة بأن لكم ما تحكمون؟! . فلما كانت اللام في جواب "إن" كسرتها .
قوله تعالى: سلهم أيهم بذلك زعيم فيه قولان .
أحدهما: أنه الكفيل، قاله ابن عباس، والمعنى: أيهم كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير . وقتادة .
والثاني: أنه الرسول، قاله الحسن .
قوله تعالى: أم لهم شركاء يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى، والمعنى: ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا . وقيل: يشهدون لهم بصدق ما ادعوا "فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين" في أنها شركاء الله . وإنما أضيف الشركاء إليهم لادعائهم أنهم شركاء الله .