وهي مكية بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد .
وسبب نزولها ما روى البخاري في " الصحيحين " من حديث ومسلم عن سعيد بن جبير قال: ابن عباس وأنذر عشيرتك الأقربين [الشعراء: 214] صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: " يا صباحاه " . فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم، أو ممسيكم، أما كنتم تصدقوني؟، قالوا: بلى . قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " .
قال أبو لهب: تبا لك، ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله تعالى: تبت يدا أبي لهب [ ص: 259 ] ومعنى: تبت: خسرت يدا لما نزل أبي لهب وتب أي: وخسر هو . قال الأول: دعاء، والثاني: خبر، كما يقول الرجل: أهلكك الله وقد أهلكك، وجعلك الله صالحا وقد جعلك . وقيل: ذكر يديه، والمراد نفسه، ولكن هذا عادة الفراء: العرب يعبرون ببعض الشيء عن جميعه، كقوله تعالى: ذلك بما قدمت يداك [الحج: 10] . وقال " مجاهد: تبت يدا أبي لهب وتب " ولد أبي لهب . فأما أبو لهب فهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل: إن اسمه عبد العزى . وقرأ وحده " أبي لهب " بإسكان الهاء . قال ابن كثير أبو علي: يشبه أن يكون لغة كالشمع، والشمع والنهر، والنهر .
فإن قيل: كيف كناه الله عز وجل، وفي الكنية نوع تعظيم؟
فعنه جوابان .
أحدهما: أنه إن صح أن اسمه عبد العزى، فكيف يذكره الله بهذا الاسم وفيه معنى الشرك؟!
والثاني: أن كثيرا من الناس اشتهروا بكناهم، ولم يعرف لهم أسماء . قال خبرني غير واحد عن ابن قتيبة: أن الأصمعي أبا عمرو بن العلاء، وأبا سفيان [ ص: 260 ] ابن العلاء أسماؤهما كناهما، فإن كان اسم أبي لهب كنيته، فإنما ذكره بما لا يعرف إلا به .
قوله تعالى: ما أغنى عنه ماله قال ابن مسعود: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقربيه إلى الله عز وجل قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقا، فإني أفتدي بمالي، وولدي، فقال الله عز وجل: ما أغنى عنه ماله وما كسب قال و " ما " في موضع رفع . المعنى: ما أغنى عنه ماله وكسبه أي: ولده . وكذلك قال المفسرون: المراد بكسبه هاهنا: ولده . و " الزجاج: أغنى " بمعنى يغني سيصلى نارا ذات لهب أي: تلتهب عليه من غير دخان وامرأته أي: ستصلى امرأته، وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان . وفي هذا دلالة على صحة نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، لأنه أخبر بهذا المعنى أنه وزوجته يموتان على الكفر، فكان كذلك . إذ لو قالا بألسنتهما: قد أسلمنا، لوجد الكفار متعلقا في الرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أن الله علم أنهما لا يسلمان باطنا ولا ظاهرا، فأخبره بذلك .
قوله تعالى: حمالة الحطب فيه أربعة أقوال .
أحدها: أنها كانت تمشي بالنميمة، قاله ابن عباس، ومجاهد، [ ص: 261 ] والسدي، وقال والفراء . فشبهوا النميمة بالحطب، والعداوة والشحناء بالنار، لأنهما يقعان بالنميمة، كما تلتهب النار بالحطب . ابن قتيبة:
والثاني: أنها كانت تحتطب الشوك، فتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا، رواه عطية عن وبه قال ابن عباس . الضحاك، وابن زيد .
والثالث: أن المراد بالحطب: الخطايا، قاله سعيد بن جبير .
والرابع: أنها كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وكانت تحتطب فعيرت بذلك، قاله وليس بالقوي، لأن الله تعالى وصفه بالمال . قتادة .
وقرأ وحده " حمالة الحطب " بالنصب . عاصم
قال من نصب " حمالة " فعلى الذم . والمعنى: أعني: حمالة [ ص: 262 ] الحطب . والجيد: العنق . والمسد في لغة الزجاج: العرب: الحبل إذا كان من ليف المقل . وقد يقال لما كان من أوبار الإبل من الحبال: " المسد " قال الشاعر:
ومسد أمر من أيانق [صهب عتاق ذات مخ زاهق]
وقال المسد عند كثير من الناس: الليف دون غيره، وليس كذلك، إنما المسد: كل ما ضفر وفتل من الليف وغيره . ابن قتيبة:
واختلف المفسرون في المراد بهذا الحبل على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها حبال كانت تكون بمكة، رواه عن العوفي وقال ابن عباس . حبل من شجر كانت تحتطب به . الضحاك:
والثاني: أنه قلادة من ودع، قاله قتادة .
والثالث: أنه سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا، قاله وقال غيره: المراد بهذا الحبل: السلسلة التي ذكرها الله تعالى في النار، طولها سبعون ذراعا . والمعنى: أن تلك السلسلة قد فتلت فتلا محكما، [فهي] في عنقها تعذب بها في النار . عروة بن [ ص: 263 ] الزبير .