قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أنه لما نزل في [الشعراء:4]: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية قال المشركون: أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها; فقال المسلمون: يا رسول الله ، أنزلها عليهم لكي يؤمنوا; فنزلت هذه الآية; رواه عن أبو صالح ابن عباس .
والثاني: قريشا قالوا: يا محمد ، تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر ، فينفجر منها اثنتا عشرة عينا ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود كانت لهم ناقة ، فائتنا بمثل هذه الآيات حتى نصدقك: فقال: أي شيء تحبون؟! قالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهبا . قال: "فإن فعلت تصدقوني؟! فقالوا: نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولكني لم أرسل آية فلم يصدق بها ، إلا أنزلت العذاب ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتركهم حتى يتوب تائبهم" ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: "يجهلون" هذا قول [ ص: 104 ] أن وقد ذكرنا معنى محمد بن كعب القرظي . جهد أيمانهم في [المائدة]; وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات ، كقولهم: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [الإسراء:90] .
قوله تعالى: قل إنما الآيات عند الله أي: هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه . وما يشعركم أنها أي: يدريكم أنها . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، عن وأبو بكر عاصم ، في اختياره: بكسر الألف ، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله وخلف يشعركم للمشركين ، ويكون تمام الكلام عند قوله: وما يشعركم ويكون المعنى: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون "إنها" مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم . وقال أبو علي: التقدير: وما يشعركم إيمانهم؟ فحذف المفعول . والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها ، لم يؤمنوا . فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين . قال سألت سيبويه: عن قوله: الخليل وما يشعركم أنها فقلت: ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع; إنما قال: وما يشعركم ثم ابتدأ فأوجب ، فقال: أنها إذا جاءت لا يؤمنون ولو قال: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ; كان ذلك عذرا لهم . وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، "أنها" بفتح الألف; فعلى هذا ، المخاطب بقوله: والكسائي: وما يشعركم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه; ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما: وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون . وفي قراءة لعلها إذا [ ص: 105 ] جاءت لا يؤمنون . أبي: والعرب تجعل "أن" بمعنى "لعل" . يقولون: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، أي: لعلك .
قال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد
أي: لعل منيتي ، وإلى هذا المعنى ذهب الخليل ، وسيبويه ، في توجيه هذه القراءة . والفراء
والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون ، وتكون "لا" صلة; كقوله تعالى: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [الأعراف:12] و قوله تعالى: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [الأنبياء:95] ذكره ورده الفراء واختار الأول . والأكثرون على قراءة: "يؤمنون" بالياء; منهم الزجاج ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وحفص عن عاصم; وقرأ ابن عامر ، بالتاء ، على الخطاب للمشركين . قال وحمزة: أبو علي: من قرأ بالياء ، فلأن الذين أقسموا غيب ، ومن قرأ بالتاء ، فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب .