[ 10 - 12] فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون .
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أي انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل، ولا يستعمل (الارتقاب) إلا في أمر مكروه. وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه:
الأول: قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة. قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع، [ ص: 5296 ] من الظلمة كهيئة الدخان، روى عن ابن جرير قال: كنا عند مسروق جلوسا وهو مضطجع بيننا. فأتاه رجل فقال: يا عبد الله بن مسعود إن قاصا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله. فمن علم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: (الله أعلم); فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم (الله أعلم). وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: (لا أعلم); فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: أبا عبد الرحمن، قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا قال: . فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود، والميتة والجيف. ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا من الجوع. «اللهم سبعا كسبع يوسف»
فأتاه فقال: يا أبو سفيان بن حرب محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم. قال عز وجل: فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين إلى قوله: إنكم عائدون قال: فكشف عنهم: يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون فالبطشة يوم بدر. وقد مضت آية الروم، وآية الدخان، والبطشة واللزام.
قال وهذا الحديث مخرج في "الصحيحين"، ورواه الإمام ابن كثير: في "مسنده" [ ص: 5297 ] وهو عند أحمد الترمذي في "تفسيرهما"، وعند والنسائي ابن جرير من طرق متعددة، وقد وافق وابن أبي حاتم رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعة من السلف ابن مسعود كمجاهد، وأبي العالية، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وعطية العوفي، وهو اختيار قال الحافظ ابن جرير. ابن حجر في (الفتح): والظاهر أن مجيء كان قبل الهجرة. لقول أبي سفيان (ثم عادوا). ولم ينقل أن ابن مسعود: قدم أبا سفيان المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك. فلذلك قال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد، وإلا فهو مشكل جدا. والله المستعان. انتهى.
وذكر في تفسير الدخان على هذا معنيين: ابن قتيبة
أحدهما: أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء. وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة: (الغبراء).
ثانيهما: أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان، فيقولون: (كان بيننا أمر ارتفع له دخان). والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه، أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. انتهى.
وقال الشهاب: الظاهر أن هذه التسمية استعارة; لأن الدخان مما يتأذى به، فأطلق على كل مؤذ يشبهه، أو على ما يلزمه، ولذا قيل:
تريد مهذبا لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
[ ص: 5298 ] الوجه الثاني في الآية: أنه دخان يظهر في العالم، وهو إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد، وهو آت وهو قول ويروى عن حذيفة. علي وجمع من التابعين. قال وابن عباس الرازي: واحتج القائلون بهذا القول بوجوه:
الأول: أن قوله: يوم تأتي السماء بدخان يقتضي وجود دخان تأتي به السماء. وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع، فذاك ليس بدخان أتت به السماء. فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه، عدولا عن الظاهر، لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز.
الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينا، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك؛ لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخانا مبينا.
والثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس. وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز، وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل.
الرابع: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عده الدخان من الآيات المنتظرة. أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلا جدا، فإن قالوا: الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة، استقام. فإنه نقل أن التقحط لما اشتد بمكة مشى إليه وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به. فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم. أبو سفيان
أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور لم يصح ذلك; لأن عند ظهور علامات القيامة. لا يمكنهم أن يقولوا: علامة من علامات القيامة، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ولم يصح أيضا أن يقال لهم: إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريا مجرى [ ص: 5299 ] ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فتحدث هذه الحالة. ثم إن الناس يخافون جدا فيتضرعون. فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملا، فقد سقط ما قالوه، والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وهكذا رجح الإمام الوجه الثاني، ذهابا إلى ما صح عن ابن كثير ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح، والحسان وغيرهما، التي أوردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة، على أن ابن عباس، مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: الدخان من الآيات المنتظرة. فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين أي: بين واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به رضي الله عنه، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى: ابن مسعود يغشى الناس أي: يتغشاهم ويعمهم. ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: يغشى الناس وقوله تعالى: هذا عذاب أليم أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. كقوله عز وجل: يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أو يقول بعضهم لبعض ذلك.
وقوله سبحانه وتعالى: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه، سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين وكذا قوله جل وعلا: وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وهكذا قال جل جلاله.