111- سورة المسد
ويقال سورة أبي لهب، مكية وآيها خمس.
[ ص: 6290 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى:
[ 1 - 5 ] تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد
تبت يدا أبي لهب وتب أي: خسرت يداه، وخسر هو. واليدان كناية عن الذات والنفس، لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز من باب إطلاق الجزء على الكل. وجملة "وتب" مؤكدة لما قبلها، أو المراد بالأولى خسرانه في نفسه وذاته; لأن سعي المرء لإصلاح نفسه وعمله. فأخبر بأن محروم منهما، كما تشير له الآيتان بعد: أعني هلاك عمله وهلاك نفسه.
وقال : كان بعض أهل العربية يقول قوله: ابن جرير تبت يدا أبي لهب دعاء عليه من الله. وأما قوله: "وتب" فإنه خبر، أي: عما سيحقق له في الدنيا والآخرة. وعبر عنه بالماضي لتحققه.
وأبو لهب أحد عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزى ، وقد اشتهر بكنيته وعرف بها لولد له يقال له: لهب; أو لتلهب وجنتيه وإشراقهما، مع الإشارة إلى أنه من أهل النار، وأن مآله إلى نار ذات لهب، فوافقت حاله كنيته، فحسن ذكره بها.
[ ص: 6291 ] قال الرواة: كان أبو لهب من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأذية له وبغضة له وازدراء به وتنقصا له ولدعوته، ومات على كفره بعد وقعة بدر ولم يحضرها، بل أرسل عنه بديلا، فلما بلغه ما جرى لقريش مات غما; وقد روى الشيخان قال: لما نزلت ابن عباس وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى: « يا بني فهر! يا بني عدي ! » - (لبطون من قريش)- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولا; لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: « أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي » قالوا: نعم. ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: « فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت السورة. عن
وروى الإمام أحمد ربيعة بن عباد الديلي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: « يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا » والناس مجتمعون عليه. ووراءه رجل وضيء الوجه أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب. وفي رواية له: يتبعه من خلفه يقول: يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة. فلا تسمعوا له ولا تتبعوه. عن
ما أغنى عنه ماله وما كسب أي: أي شيء أغنى عنه ماله وما كسبه من سخط الله عليه وخسرانه. فكسبه هو عمله الذي يظن أنه منه على شيء. وقيل: ولده; لقرن الأولاد بالأموال في كثير من الآيات، وكانت العرب تعد أولادها للنائبات كالأموال، فنفى إغناءهما عنه حين حل به التباب.
[ ص: 6292 ] قال الشهاب: والذي صححه أهل الأثر أن أولاده، لعنه الله، ثلاثة: متعب وعتبة وهما أسلما، وعتيبة -(مصغرا) - وهذا هو الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لما جاهر بإيذائه وعداوته، ورد ابنته وطلقها; وقال صلوات الله عليه وسلامه: « اللهم سلط عليه كلبا من كلابك » فأكله السبع في خرجة خرجها إلى الشام. وفيه يقول رضي الله عنه: حسان
من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
ثم قال: ولهب هو أحد هؤلاء فيما قيل، قال : ومنه يعلم أن الأسد يطلق عليه كلب. ولما أضيف إلى الله، كان أعظم أفراده. الثعالبي
سيصلى نارا ذات لهب أي: توقد واشتعال، وهي نار الآخرة، جزاء ما كان يأتيه من مقاومة الحق ومجاهدته.
وامرأته حمالة الحطب أي: وسيصلاها معه امرأته أيضا: فـ "امرأته" مرفوع عطفا على الضمير في "سيصلى" أو على الابتداء، و "في جيدها" الخبر. وقرئ: (حمالة) بالنصب على الشتم والذم، وبالرفع نعتا أو بدلا أو عطف بيان. إنما قيل لها ذلك لأنها كانت تحطب الكلام وتمشي بالنميمة، كما قاله مجاهد وعكرمة . وقتادة
قال : ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس، يحمل الحطب بينهم، أي: يوقد بينهم ويورث الشر، قال: الزمخشري
البيض لم تصطد على ظهر لأمة ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
يمدحها بأنها من البيض الوجوه وأنها بريئة من أن تصطاد على سوء ولؤم فيها، ومن أن تمشي بالسعاية والنميمة بين الناس. وإنما جعل رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة الشر. ويقال: فلان يحطب على فلان، إذا أغرى به.
[ ص: 6293 ] قال الشهاب: وهي استعارة مشهورة لطيفة، كاستعارة حطب جهنم للأوزار.
قال : وكانت زوجته من سادات نساء قريش، وهي ابن كثير أم جميل، واسمها أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت وعمة أبي سفيان ، وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده. معاوية
في جيدها حبل من مسد قال الإمام رحمه الله: أي: في عنقها حبل من الليف، أي: أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة، للإفساد بين الناس وتأريث نيران العداوة بينهم، بمنزلة حامل الحطب الذي في عنقه حبل خشن، يشد به ما حمله إلى عنقه، حتى يستقل به. وهذه أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب، وفي عنقها حبل من الليف، تشد به الحطب إلى كاهلها، حتى تكاد تختنق به.
وقال أيضا: قد أنزل الله في أبي لهب وفي زوجته هذه السورة، ليكون مثلا يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه; مطاوعة لهواه وإيثارا لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال، واغترارا بما عنده من الأموال، وبما له من الصولة أو من المنزلة في قلوب الرجال، وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئا، وسيصلى ما يصلى. نسأل الله العافية.