فصل
ومن قائل: إن المعني باللمس هنا الجماع، وذلك لوروده في غير هذه الآية بمعناه، فدل على أنه من كنايات التنزيل، قال تعالى: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [البقرة: من الآية 237] وقال تعالى: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [الأحزاب: من الآية 49] وقال في آية الظهار: فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا [القصص: من الآية 3].
وروى ، عن ابن أبي حاتم [ ص: 1260 ] في هذه الآية: ابن عباس أو لامستم النساء قال: الجماع.
وروى عنه، قال: إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء، وقد صح من غير وجه عن ابن جرير أنه قال ذلك، وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره؛ لاستجابة دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه بتعليمه تأويل الكتاب، كما أسلفنا بيان ذلك في مقدمة التفسير. ابن عباس
ويؤيد عدم النقض بالمس ما رواه مسلم وصححه عن والترمذي قالت: عائشة . فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك
وروى عن النسائي - رضي الله عنها - قالت: عائشة إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي وإني لمعترضته بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله.
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": إسناده صحيح، وقوله في "الفتح": يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به - صلى الله عليه وسلم - تكلف، ومخالفة للظاهر.
وعن إبراهيم التيمي ، عن - رضي الله عنها -: عائشة رواه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ أبو داود . قال والنسائي : هو مرسل، أبو داود إبراهيم التيمي [ ص: 1261 ] لم يسمع من ، وقال عائشة : ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلا، وصححه النسائي وجماعة. ابن عبد البر
وشهد له ما تقدم وما رواه في المعجم الصغير من حديث الطبراني عمرة عن قالت: عائشة مارية ، فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائما يصلي، فأدخلت يدي في شعره لأنظر أغتسل أم لا؟ فلما انصرف قال: أخذك شيطانك يا ، عائشة وفيه فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فقلت: إنه قام إلى جاريته محمد بن إبراهيم عن ، قال عائشة : ولم يسمع منها. ابن أبي حاتم
قال : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: ابن جرير أو لامستم النساء الجماع دون غيره من معاني اللمس؛ لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أسنده من طرق، وبه يعلم أن حديث أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقي من اللمس، وأوجبت المصير إلى معناه المجازي. عائشة
وأما ما روي عن ابن عمر ، فنحن لا ننكر صحة وابن مسعود ، بل هو المعنى الحقيقي، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز. إطلاق اللمس على الجس باليد
وأما قولهم بأن القبلة فيها الوضوء فلا حجة في قول الصحابي لا سيما إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع، ويؤيد ذلك قول اللغويين أن المراد بقول بعض الأعراب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: . إن امرأته لا ترد يد لامس الكناية عن كونها زانية، ولهذا قال له - صلى الله عليه وسلم -: طلقها
وأما حديث الذي استأنسوا به فلا دلالة فيه على النقض؛ لأنه لم يثبت أنه كان متوضئا قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء، ولا ثبت أنه كان متوضئا عند اللمس، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد انتقض وضوؤه، كذا في "نيل الأوطار". معاذ
[ ص: 1262 ] وقال : هو منقطع بين ابن كثير ابن أبي ليلى ، فإنه لم يلقه، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة، كما تقدم في حديث ومعاذ : الصديق وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله: ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [آل عمران: من الآية 135] الآية.
الخامسة: : القصد، يقال: تيممته وتأممته ويممته، وآممته أي: قصدته، وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد. التيمم لغة
قال : الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره، لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك. الزجاج
وفي "المصباح": الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق.
وفي "القاموس": الصعيد التراب أو وجه الأرض.
قال : ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله تعالى: الأزهري صعيدا طيبا هو التراب. انتهى.
واحتجوا بما في صحيح عن مسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حذيفة بن اليمان وفي لفظ: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء . وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء
قالوا: فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره [ ص: 1263 ] معه.
قالوا: وحديث المتفق عليه: جابر خصصه ما قبله لأن الخاص يحمل عليه العام، واحتجوا أيضا بأن الطيب لا يكون إلا ترابا. جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا
قال الواحدي: إنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبا، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه [الأعراف من الآية: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة، فكان قوله: فتيمموا صعيدا طيبا أمرا بالتيمم بالتراب فقط، وظاهر الأمر للوجوب، واحتجوا أيضا بآية المائدة، قالوا: الآية ههنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيدة، وهي قوله سبحانه وتعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه [المائدة: من الآية 6] وكلمة (من) للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.
[ ص: 1264 ] قال : وقولهم إن (من) لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: (مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب) إلا معنى التبعيض، ثم قال: والإذعان للحق أحق من المراء. انتهى. الزمخشري
وأجاب القائلون بجواز عن هذه الحجج بأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض؛ لأنه ما صعد، أي: علا وارتفع على وجه الأرض، وهذه الصفة لا تختص بالتراب، ويؤيد ذلك حديث: التيمم بالأرض وما عليها وهو متفق عليه من حديث جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وغيره، وما ثبت في رواية بلفظ: جابر وتربتها طهورا كما أخرجه من حديث مسلم - فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء؛ لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية، وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول، فيكون ذكر التراب في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام، وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث، ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة، ويؤيد هذا ما ثبت من تيممه صلى الله عليه وسلم من جدار. حذيفة
وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا ترابا طاهرا منبتا لقوله تعالى:: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا [الأعراف: 58] - فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذكر، والضرورة تدفعه، فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجا للنبات، كذا في "الروضة الندية".
[ ص: 1265 ] وأما الاستدلال بآية المائدة وظهور التبعيض في (من) فذاك إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد.
قال الناصر في "الانتصاف": وثمة وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله: وإن كنتم مرضى إلى آخرها، فإن المفهوم منه: وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال: سفر أو مرض، أو مجيء من الغائط، أو ملامسة النساء - فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث فتيمموا منه، يقال: تيممت من الجنابة، قال: وموقع (من) على هذا مستعمل متداول، وهي على هذا الإعراب إما للتعليل أو لابتداء الغاية، وكلاهما فيها متمكن، والله أعلم.
السادسة: أفاد قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم أن هو مسح الوجه واليدين فقط، وهذا إجماع، إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة، فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين؛ لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة: الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل فاقطعوا أيديهما [المائدة: من الآية 38] وقالوا: وحمل ما أطلق ههنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية.
وروى ، عن الشافعي إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث ، عن الأعرج ، عن ابن الصمة قال: مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد علي، حتى قام إلى الجدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد علي .
وهذا الحديث منقطع؛ لأن الأعرج - وهو عبد الرحمن بن هرمز - لم يسمع هذا من ابن الصمة ، وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة ، وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال: أبي جهيم بن الحارث، فقال أبو جهيم : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فوضع يده على الحائط، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام . دخلنا على
[ ص: 1266 ] عن ولأبي داود قال: نافع في حاجة إلى ابن عمر ، فقضى ابن عباس حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر ابن عمر . انطلقت مع
وفي رواية: فمسح ذراعيه إلى المرفقين، فهذا أجود ما في الباب، فإن أشار إلى صحته، كذا في "لباب التأويل". البيهقي
قال في حديث ابن كثير ما نصه: ولكن في إسناده أبي داود محمد بن ثابت العبدي ، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ، قال ابن عمر البخاري وأبو زرعة وابن عدي : هو الصحيح.
وقال : رفع هذا الحديث منكر. البيهقي
قال : وذكر بعضهم ما رواه ابن كثير عن الدارقطني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابن عمر ولكن لا يصح؛ لأن في إسناده ضعفا لا يثبت الحديث به. انتهى. وذلك لأن فيه التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين علي بن ظبيان ، قال الحافظ ابن حجر : هو ضعيف، ضعفه القطان وابن معين وغير واحد، وبه يعلم أن ما استدل به على إيجاب الضربتين - مما ذكر - ففيه نظر؛ لأن طرقها جميعها لا تخلو من مقال، ولو صحت لكان الأخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة.