[ ص: 185 ] الجهمية المعطلة هو قول وحقيقة قول فرعون وهو جحد الخالق وتعطيل كلامه ودينه كما كان فرعون يفعل فكان يجحد الخالق جل جلاله ويقول : { ما علمت لكم من إله غيري } ويقول لموسى { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } ويقول : { أنا ربكم الأعلى } وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى أو يكون لموسى إله فوق السموات ويريد أن يبطل عبادة الله وطاعته ويكون هو المعبود المطاع .
فلما كان قول الجهمية المعطلة النفاة يئول إلى قول فرعون كان منتهى قولهم إنكار رب العالمين وإنكار عبادته وإنكار كلامه حتى ظهروا بدعوى التحقيق والتوحيد والعرفان فصاروا يقولون : العالم هو الله والوجود واحد والموجود القديم الأزلي الخالق هو الموجود المحدث المخلوق والرب هو العبد ما ثم رب وعبد وخالق ومخلوق ; بل هو عندهم فرقان . ولهذا صاروا يعيبون على الأنبياء وينقصونهم ; ويعيبون على نوح وعلى إبراهيم الخليل وغيرهما ويمدحون فرعون ويجوزون عبادة جميع المخلوقات وجميع الأصنام ولا يرضون بأن تعبد الأصنام حتى يقولوا : إن عباد الأصنام لم يعبدوا إلا الله وأن الله نفسه هو العابد وهو المعبود وهو الوجود كله فجحدوا الرب وأبطلوا دينه وأمره ونهيه [ ص: 186 ] وما أرسل به رسله وتكليمه لموسى وغيره .
وقد ضل في هذا جماعة لهم معرفة بالكلام والفلسفة والتصوف المناسب لذلك كابن سبعين والصدر القونوي تلميذ ابن عربي والبلياني والتلمساني وهو من حذاقهم علما ومعرفة وكان يظهر المذهب بالفعل فيشرب الخمر ويأتي المحرمات .
وحدثني الثقة أنه قرأ عليه " فصوص الحكم " لابن عربي وكان يظنه من كلام أولياء الله العارفين فلما قرأه رآه يخالف القرآن قال فقلت له : هذا الكلام يخالف القرآن فقال : القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا وكان يقول : ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول .
وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم فقال له رفيقه : هذا أيضا هو ذات الله ؟ فقال : وهل ثم شيء خارج عنها ؟ نعم الجميع في ذاته .
وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون ; لكن فرعون ما كان يخاف أحدا فينافقه فلم يثبت الخالق وإن كان في الباطن مقرا به وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق ; لكن حب العلو في الأرض والظلم [ ص: 187 ] دعاه إلى الجحود والإنكار كما قال { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين } { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } .
وأما هؤلاء فهم من وجه ينافقون المسلمين فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع ومن وجه هم ضلال يحسبون أنهم على حق وأن الخالق هو المخلوق فكان قولهم هو قول فرعون لكن فرعون كان معاندا مظهرا للجحود والعناد وهؤلاء إما جهال ضلال وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود يوافقون المسلمين في الظاهر وحدثني الشيخ عبد السيد الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم وكان من أصدق الناس ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلاما أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له الشرف البلاسي يطلب منه المعرفة والعلم . قال : فدعاني إلى هذا المذهب فقلت له : قولكم يشبه قول فرعون قال : ونحن على قول فرعون فقلت لعبد السيد واعترف لك بهذا ؟ قال نعم وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب فقلت له : هذا مذهب فاسد وهو يئول إلى قول فرعون فحدثني بهذا فقلت له ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون لكن مع إقرار الخصم ما يحتاج إلى بينة . قال عبد السيد فقلت له : لا أدع موسى وأذهب [ ص: 188 ] إلى فرعون فقال : ولم ؟ قلت : لأن موسى أغرق فرعون فانقطع واحتج عليه بالظهور الكوني فقلت لعبد السيد - وكان هذا قبل أن يسلم - نفعتك اليهودية يهودي خير من فرعوني .
وفيهم جماعات لهم عبادة وزهد وصدق فيما هم فيه وهم يحسبون أنه حق وعامتهم - الذين يقرون ظاهرا وباطنا بأن محمدا رسول الله وأنه أفضل الخلق أفضل من جميع الأنبياء والأولياء - لا يفهمون حقيقة قولهم ; بل يحسبون أنه تحقيق ما جاء به الرسول وأنه من جنس كلام أهل المعرفة الذين يتكلمون في حقائق الإيمان والدين وهم من خواص أولياء الله فيحسبون هؤلاء من جنس أولئك من جنس الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله وأمثال هؤلاء .
وأما عرافهم الذين يعلمون حقيقة قولهم فيعلمون أنه ليس الأمر كذلك ويقولون ما يقول ابن عربي ونحوه إن الأولياء أفضل من الأنبياء وإن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وإن جميع الأنبياء يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء وأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يأتي خاتم الأنبياء فإنهم متجهمة متفلسفة يخرجون أقوال المتفلسفة و الجهمية في قالب الكشف .
[ ص: 189 ] وعند المتفلسفة أن جبريل إنما هو خيال في نفس النبي ليس هو ملكا يأتي من السماء والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال وأما خاتم الأولياء في زعمهم فإنه يأخذ من العقل المجرد الذي يأخذ منه الخيال ; فهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول .
وهم يعظمون فرعون . ويقولون ما قاله صاحب " الفصوص " قال : ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت وأنه جار في العرف الناموسي ; لذلك قال : { أنا ربكم الأعلى } أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم قال : ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك . وقالوا له : { فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } قال : فصح قول فرعون { أنا ربكم الأعلى } وإن كان فرعون عين الحق .
وحدثني الثقة الذي كان منهم ثم رجع عنهم أن أبغض الناس إليهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . قال : وإذا نهق الحمار ونبح الكلب سجدوا له وقالوا هذا هو الله فإنه مظهر من المظاهر . قال : فقلت له محمد بن عبد الله أيضا مظهر من المظاهر فاجعلوه كسائر المظاهر وأنتم تعظمون المظاهر كلها أو اسكتوا عنه قال فقالوا لي : محمد نبغضه فإنه أظهر الفرق ودعا إليه وعاقب من لم يقل به قال : [ ص: 190 ] فتناقضوا في مذهبهم الباطل وجعلوا الكلب والحمار أفضل من أفضل الخلق قال لي : وهم يصرحون باللعنة له ولغيره من الأنبياء ولا ريب أنهم من أعظم الناس عبادة للشيطان وكفرا بالرحمن .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } فهم إذا سمعوا نهيق الحمار ونباح الكلب تكون الشياطين قد حضرت فيكون سجودهم للشياطين . إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار ونباح الكلب فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا
وكان فيهم شيخ جليل من أعظمهم تحقيقا - لكن هذا لم يكن من هؤلاء الذين يسبون الأنبياء - وقد صنف كتابا سماه " فك الأزرار عن أعناق الأسرار " ذكر فيه مخاطبة جرت له مع إبليس وأنه قال له ما معناه : إنكم قد غلبتموني وقهرتموني ونحو هذا لكن جرت لي قصة تعجبت منها مع شيخ منكم فإني تجليت له فقلت : أنا الله لا إله إلا أنا فسجد لي فتعجبت كيف سجد لي . قال هذا الشيخ : فقلت له : ذاك أفضلنا وأعلمنا وأنت لم تعرف قصده ما رأى في الوجود اثنين وما رأى إلا واحدا فسجد لذلك الواحد لا يميز بين إبليس وغيره فجعل هذا الشيخ ذاك الذي سجد لإبليس لا يميز [ ص: 191 ] بين الرب وغيره ; بل جعل إبليس هو الله هو وغيره من الموجودات جعله أفضلهم وأعلمهم .
ولهذا عاب ابن عربي نوحا أول رسول بعث إلى أهل الأرض وهو الذي جعل الله ذريته هم الباقين وأنجاه ومن معه في السفينة وأهلك سائر أهل الأرض لما كذبوه ; فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وعظم قومه الكفار الذين عبدوا الأصنام وأنهم ما عبدوا إلا الله وأن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهذا عادته ينتقص الأنبياء ويمدح الكفار كما ذكر مثل ذلك في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وغيرهم .
ومدح عباد العجل وتنقص هارون وافترى على موسى . فقال : وكان موسى أعلم بالأمر من هارون ; لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه وما قضى الله بشيء إلا وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه ; فإن العارف من يرى الحق في كل شيء ; بل يراه عين كل شيء فذكر عن موسى أنه عتب على هارون أنه أنكر عليهم عبادة العجل وأنه لم يسع ذلك فأنكره فإن العارف من يرى الحق في كل شيء ; بل يراه عين كل شيء .
[ ص: 192 ] وهذا من أعظم الافتراء على موسى وهارون وعلى الله وعلى عباد العجل ; فإن الله أخبر عن موسى أنه أنكر العجل إنكارا أعظم من إنكار هارون وأنه أخذ بلحية هارون لما لم يدعهم ويتبع موسى لمعرفته . قال تعالى : { وما أعجلك عن قومك يا موسى } { قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى } { قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } { فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي } { قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري } { فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي } { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } { ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري } { قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا } { ألا تتبعني أفعصيت أمري } { قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } .
قلت لبعض هؤلاء : هذا الكلام الذي ذكره هذا عن موسى [ ص: 193 ] وهارون يوافق القرآن أو يخالفه ؟ فقال : لا بل يخالفه قلت : فاختر لنفسك إما القرآن وإما كلام ابن عربي .
وكذلك قال عن نوح قال : لو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه أي ذكر لهم فدعاهم جهارا ثم دعاهم إسرارا إلى أن قال : ولما علموا أن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو ; لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية { أدعو إلى الله } فهذا عين المكر { على بصيرة } فنبه أن الأمر كله لله فأجابوه مكرا كما دعاهم فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسمائه فقال : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين فقالوا في مكرهم : { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله كما قال في المحمديين : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } أي حكم فالعارف يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود .
[ ص: 194 ] وهو دائما يحرف القرآن عن مواضعه كما قال في هذه القصة : { مما خطيئاتهم } فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهي الحيرة { فأدخلوا نارا } في عين الماء في المحمديين { وإذا البحار سجرت } سجرت التنور أوقدته { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا } فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد وقوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } بمعنى أمر وأوجب وفرض .
وفي القراءة الأخرى ( ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه فجعل معناه أنه قدر وشاء أن لا تعبدوا إلا إياه وما قدره فهو كائن فجعل معناها كل معبود هو الله وأن أحدا ما عبد غير الله قط وهذا من أظهر الفرية على الله وعلى كتابه وعلى دينه وعلى أهل الأرض .
فإن الله في غير موضع أخبر أن المشركين عبدوا غير الله ; بل يعبدون الشيطان كما قال تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين } { وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } { ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون } وقال تعالى عن يوسف أنه قال : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وقال تعالى : [ ص: 195 ] { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } { إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } { قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين } .
وقال تعالى عن الخليل : { إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } { يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا } { يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا } { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا } { قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا } { قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا } { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا } { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا } { ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا } .
فهو سبحانه يقول : { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } وهؤلاء الملحدون يقولون : ما عبدنا غير الله في كل معبود .
وقال تعالى : [ ص: 196 ] { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } { ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين } إلى قوله : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } .
قال أبو قلابة : هي لكل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله .