الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فإن الجن مأمورون ومنهيون كالإنس وقد بعث الله الرسل من الإنس إليهم وإلى الإنس وأمر الجميع بطاعة الرسل كما قال [ ص: 80 ] تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } وهذا بعد قوله : { ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله } . قال غير واحد من السلف : أي كثير من أغويتم من الإنس وأضللتموهم . قال البغوي : قال بعضهم : استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون لهم : من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهيئونها ويسهل سبيلها عليهم واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي قال محمد بن كعب : هو طاعة بعضهم لبعض وموافقة بعضهم بعضا وذكر ابن أبي حاتم عن الحسن البصري . قال : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس وعن محمد بن كعب قال هو الصحابة في الدنيا وقال ابن السائب استمتاع الإنس بالجن استعاذتهم بهم واستمتاع الجن بالإنس أن قالوا : قد أسرنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في أنفسهم وعظما في نفوسهم وهذا كقوله : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } [ ص: 81 ] قلت " الاستمتاع بالشيء " هو أن يتمتع به فينال به ما يطلبه ويريده ويهواه ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء بعضهم ببعض كما قال : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } ومن ذلك الفواحش كاستمتاع الذكور بالذكور والإناث بالإناث .

                ويدخل في هذا الاستمتاع بالاستخدام وأئمة الرياسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم ومماليكهم ويدخل في ذلك الاستمتاع بالأموال كاللباس ومنه قوله : { ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } وكان من السلف من يمتع المرأة بخادم فهي تستمتع بخدمته ومنهم من يمتع بكسوة أو نفقة ولهذا قال الفقهاء : أعلى المتعة خادم وأدناها كسوة تجزي فيها الصلاة . وفي " الجملة " استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس يشبه استمتاع الإنس بالإنس قال تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } وقال تعالى : { وتقطعت بهم الأسباب } قال مجاهد : هي المودات التي كانت لغير الله وقال الخليل : { إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } وقال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } فالمشرك يعبد ما يهواه واتباع الهوى هو استمتاع من صاحبه بما يهواه وقد وقع في الإنس والجن هذا كله . [ ص: 82 ] وتارة يخدم هؤلاء لهؤلاء في أغراضهم وهؤلاء لهؤلاء في أغراضهم فالجن تأتيه بما يريد من صورة أو مال أو قتل عدوه والإنس تطيع الجن فتارة تسجد له وتارة تسجد لما يأمره بالسجود له وتارة تمكنه من نفسه فيفعل به الفاحشة وكذلك الجنيات منهن من يريد من الإنس الذي يخدمنه ما يريد نساء الإنس من الرجال وهذا كثير في رجال الجن ونسائهم فكثير من رجالهم ينال من نساء الإنس ما يناله الإنسي وقد يفعل ذلك بالذكران .

                وصرع الجن للإنس هو لأسباب ثلاثة : تارة يكون الجني يحب المصروع فيصرعه ليتمتع به وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل وتارة يكون الإنسي آذاهم إذا بال عليهم أو صب عليهم ماء حارا أو يكون قتل بعضهم أو غير ذلك من أنواع الأذى وهذا أشد الصرع وكثيرا ما يقتلون المصروع وتارة يكون بطريق العبث به كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل . ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة كما يخبر الكهان فإن في الإنس من له غرض في هذا ; لما يحصل به من الرياسة والمال وغير ذلك فإن كان القوم كفارا كما كانت العرب لم تبال بأن يقال : إنه كاهن كما كان بعض العرب كهانا وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها كهان وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى [ ص: 83 ] الكهان وكان أبو أبرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم وإن كان القوم مسلمين لم يظهر أنه كاهن بل يجعل ذلك من باب الكرامات وهو من جنس الكهان فإنه لا يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده إما في شرك وإما في فاحشة وإما في أكل حرام وإما في قتل نفس بغير حق . فالشياطين لهم غرض فيما نهى الله عنه من الكفر والفسوق والعصيان ولهم لذة في الشر والفتن يحبون ذلك وإن لم يكن فيه منفعة لهم وهم يأمرون السارق أن يسرق ويذهبون إلى أهل المال فيقولون : فلان سرق متاعكم ; ولهذا يقال : القوة الملكية والبهيمية والسبعية والشيطانية فإن الملكية فيها العلم النافع والعمل الصالح والبهيمية فيها الشهوات كالأكل والشرب والسبعية فيها الغضب وهو دفع المؤذي وأما الشيطانية فشر محض ليس فيها جلب منفعة ولا دفع مضرة . والفلاسفة ونحوهم ممن لا يعرف الجن والشياطين لا يعرفون هذه وإنما يعرفون الشهوة والغضب والشهوة والغضب خلقا لمصلحة ومنفعة ; لكن المذموم هو العدوان فيهما وأما الشيطان فيأمر بالشر الذي لا منفعة فيه ويحب ذلك كما فعل إبليس بآدم لما وسوس له وكما [ ص: 84 ] امتنع من السجود له فالحسد يأمر به الشيطان والحاسد لا ينتفع بزوال النعمة عن المحسود لكن يبغض ذلك وقد يكون بغضه لفوات غرضه وقد لا يكون . ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في إحضار بعض ما يطلبونه من مال وطعام وثياب ونفقة ; فقد يأتون ببعض ذلك وقد يدلونه على كنز وغيره .

                واستمتاع الجن بالإنس استعمالهم فيما يريده الشيطان من كفر وفسوق ومعصية . ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم فيما يطلبه الإنس من شرك وقتل وفواحش فتارة يتمثل الجني في صورة الإنسي فإذا استغاث به بعض أتباعه أتاه فظن أنه الشيخ نفسه وتارة يكون التابع قد نادى شيخه وهتف به يا سيدي فلان فينقل الجني ذلك الكلام إلى الشيخ بمثل صوت الإنسي حتى يظن الشيخ أنه صوت الإنسي بعينه ثم إن الشيخ يقول : نعم ويشير إشارة يدفع بها ذلك المكروه فيأتي الجني بمثل ذلك الصوت والفعل فيظن ذلك الشخص أنه شيخه نفسه وهو الذي أجابه وهو الذي فعل ذلك حتى أن تابع الشيخ قد يكون يده في إناء يأكل فيضع الجني يده في صورة يد الشيخ ويأخذ من الطعام ; فيظن ذلك التابع أنه شيخه حاضر معه والجني يمثل للشيخ نفسه مثل ذلك الإناء ; فيضع يده فيه حتى يظن الشيخ أن يده [ ص: 85 ] في ذلك الإناء فإذا حضر المريد ذكر له الشيخ أن يدي كانت في الإناء فيصدقه ويكون بينهما مسافة شهر والشيخ موضعه ويده لم تطل ولكن الجني مثل للشيخ ومثل للمريد حتى ظن كل منهما أن أحدهما عند الآخر وإنما كان عنده ما مثله الجني وخيله . وإذا سئل الشيخ المخدوم عن أمر غائب إما سرقة وإما شخص مات وطلب منه أن يخبر بحاله أو علة في النساء أو غير ذلك فإن الجني قد يمثل ذلك فيريه صورة المسروق فيقول الشيخ : ذهب لكم كذا وكذا ثم إن كان صاحب المال معظما وأراد أن يدله على سرقته مثل له الشيخ الذي أخذه أو المكان الذي فيه المال فيذهبون إليه فيجدونه كما قال والأكثر منهم أنهم يظهرون صورة المال ولا يكون عليه ; لأن الذي سرق المال معه أيضا جني يخدمه والجن يخاف بعضهم من بعض كما أن الإنس يخاف بعضهم بعضا فإذا دل الجني عليه جاء إليه أولياء السارق فآذوه وأحيانا لا يدل لكون السارق وأعوانه يخدمونه ويرشونه كما يصيب من يعرف اللصوص من الإنس تارة يعرف السارق ولا يعرف به إما لرغبة ينالها منه وإما لرهبة وخوف منه وإذا كان المال المسروق لكبير يخافه ويرجوه عرف سارقه فهذا وأمثاله من استمتاع بعضهم ببعض .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية