[ ص: 129 ] وقال شيخ الإسلام هذه " قاعدة عظيمة جامعة متشعبة " وللناس في تفاصيلها اضطراب عظيم حتى إن منهم من صار في طرفي نقيض في كل نوعي الأحكام العلمية والأحكام العينية النظرية وذلك أن كل واحد من العلوم والاعتقادات والأحكام والكلمات بل والمحبة والإرادات : إما أن يكون تابعا لمتعلقه مطابقا له ; وإما أن يكون متبوعه تابعا له مطابقا له .
ولهذا انقسم الحق والحقائق والكلمات إلى موجود ; ومقصود . إلى كوني ; وديني . إلى قدري وشرعي . كما قد بينته في غير هذا الموضع وقد تنازع النظار في ؟ بل هو انفعالي كما يقوله كثير من أهل الكلام ؟ أو المعلوم تابع له والعلم مؤثر فيه وهو فعلي كما يقوله كثير من العلم : هل هو تابع للمعلوم غير مؤثر فيه أهل الفلسفة ؟ .
والصواب أن : أحدهما تابع والثاني متبوع . والوصفان يجتمعان في العلم غالبا أو دائما فعلمنا بما لا يفتقر إلى علمنا كعلمنا بوجود السموات والأرض وكذلك علمنا بالله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والنبيين وغير ذلك : [ ص: 130 ] علم تابع انفعالي . وعلمنا بما يقف على علمنا مثل ما نريده من أفعالنا علم فعلي متبوع وهو سبب لوجود المعلوم . وكذلك علم الله بنفسه المقدسة تابع غير مؤثر فيها وأما علمه بمخلوقاته فهو متبوع وبه خلق الله الخلق كما قال تعالى : { العلم نوعان ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } فإن الإرادة مستلزمة للعلم في كل مريد كما أن هذه الصفات مستلزمة للحياة فلا إرادة إلا بعلم ولا إرادة وعلم إلا بحياة وقد يجوز أن يقال : كله علم فهو تابع للمعلوم مطابق سواء كان سببا في وجود المعلوم أو لم يكن فيكون إطلاق المتكلمين أحسن وأصوب من إطلاق المتفلسفة : أن كل علم فهو فعلي متبوع .
وما أظن العقلاء من الفريقين إلا يقصدون معنى صحيحا وهو أن يشيروا إلى ما تصوروه فينظر هؤلاء في أن العلم تابع لمعلومه مطابق له ويشير هؤلاء إلى ما في حسن العلم في الجملة من أنه قد يؤثر في المعلوم وغيره ويكون سببا له وأن وجود الكائنات كان بعلم الله وعلم الإنسان بما هو حق أو باطل ; وهدى أو ضلال ورشاد أو غي ; وصدق أو كذب ; وصلاح أو فساد من اعتقاداته وإراداته وأقواله وأعماله ونحو ذلك يجتمع فيه الوصفان بل غالب العلم أو كله يجتمع فيه الأمران .
ولهذا كان الإيمان قولا وعملا قول القلب وعمله وقول الجسد [ ص: 131 ] وعمله فإنه من عرف الله أحبه فعمله بالله تابع للمعلوم ومتبوع لحبه لله ومن عرف الشيطان أبغضه فمعرفته به تابعة للمعلوم ومتبوعة لبغضه وكذلك عامة العلم لا بد أن يتبعه أثر ما في العالم من حب أو غيره حتى علم الرب سبحانه بنفسه المقدسة يتبعه صفات وكلمات وأفعال متعلقة بنفسه المقدسة فما من علم إلا ويتبعه حال ما وعمل ما فيكون متبوعا مؤثرا فاعلا بهذا الاعتبار وما من علم إلا وهو مطابق لمعلومه موافق له سواء كان المعلوم مستغنيا عنه أو كان وجود المعلوم بوجوده فيكون تابعا منفعلا مطابقا بهذا الاعتبار لكن كل علم وإن كان له تأثير فلا يجب أن يكون تأثيره في معلومه فإن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فأحب الله وملائكته وأنبياءه والجنة وأبغض النار لم يكن علمه بذلك مؤثرا في المعلوم وإنما أثر في محبة المعلوم وإرادته أو في بغضه وكراهته لذلك .
وإن كان كل علم فإنه مطابق للمعلوم لكن قد يكون ثبوت المعلوم في ذهن العالم وتصوره قبل وجوده في الخارج كتصور الإنسان لأقواله وأعماله وقد يكون وجوده في الخارج قبل تصور الإنسان له وعلمه أو بدون تصور الإنسان له فلهذا التفريق حصل التقسيم الذي قدمناه من أنه ينقسم إلى مؤثر في المعلوم وغير مؤثر فيه وإلى تابع للمعلوم وغير تابع له وإن كان كل علم فإن له أثرا في نفس العالم وإن كان [ ص: 132 ] كل علم فإنه تابع تبع المطابقة والموافقة وإن لم يكن بعضه تابعا تبع التأخر والتأثر والافتقار والتعلل .
فهذه مقدمة جامعة نافعة جدا في أمور كثيرة . إذا تبين هذا في جنس العلم ظهر ذلك في الاعتقاد والرأي والظن ونحو ذلك الذي قد يكون علما وقد لا يكون علما بل يكون اعتقادا صحيحا أو غير صحيح أو ظنا صحيحا أو غير صحيح أو غير ذلك من أنواع الشعور والإحساس والإدراك فإن هذا الجنس هو الأصل في الحركات والأفعال الروحانية والجسمانية ما كان من جنس الحب والبغض وغير ذلك وما كان من جنس القيام والقعود وغير ذلك فإن جميع ذلك تابع للشعور مفتقر إليه مسبوق به والعلم أصل العمل مطلقا وإن كان قد يكون فرعا لعلوم غير العمل كما تقدم .
فالاعتقاد تارة يكون فرعا للمعتقد تابعا له كاعتقاد الأمور الخارجة عن كسب العبد كاعتقاد المؤمنين والكفار في الله تعالى وفي اليوم الآخر . وقد يكون أصلا للمعتقد متبوعا له ; كاعتقاد المعتقد وظنه أن هذا العمل يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة إما في الدنيا وإما في الآخرة مثل اعتقاده أن أكل هذا الطعام يشبعه وأن تناول هذا السم يقتله وأن هذه الرمية تصيب هذا الغرض وهذه الضربة تقطع هذا العنق وهذا البيع والتجارة يورثه ربحا أو خسارة وأن [ ص: 133 ] صلاته وزكاته وحجه وبره وصدقه ونحو ذلك من الأعمال الصالحة يورثه السعادة في الدنيا والآخرة وأن كفره وفسوقه وعصيانه يورثه الشقاوة في الدنيا والآخرة .
وهذا باب واسع تدخل فيه الديانات والسياسات وسائر الأعمال الدينية والدنيوية ويشترك فيه الدين الصحيح والفاسد ; لكن هذا الاعتقاد العملي لا بد أن يتعلق أيضا بأمور غير العمل فإن اعتقاده أن هذا العمل ينفعه في الدنيا والآخرة أو يضره يتعلق أيضا بصفات ثابتة الأعيان لا يتعلق باعتقاده كما أن الاعتقاد النظري وإن كان معتقده غير العمل فإنه يتبعه عمل كما تقدم أن كلا من الاعتقادين تابع متبوع .
والأحكام أيضا من جنس الاعتقادات فإنه أيضا ينقسم قسمين : أحكام عينية تابعة للمحكوم فيه ; كالحكم بما يستحقه الله تعالى من الحمد والثناء وما يتقدس عنه من الفقر والشركاء . وأحكام عملية يتبعها المحكوم فيه ; كالحكم بأن هذا العمل حسن أو قبيح ; صالح أو فاسد خير أو شر نافع أو ضار واجب أو محرم مأمور به أو منهي عنه رشاد أو غي عدل أو ظلم .
وكذلك الكلمات فإنها تنقسم إلى خبرية وإنشائية فالكلمات الخبرية [ ص: 134 ] تطابق المخبر عنه وتتبعه وهي موافقة للعلم التابع والاعتقاد التابع والحكم التابع . والكلمات الإنشائية مثل الأمر والنهي والإباحة تستتبع المتكلم فيه المأمور به والمنهي عنه والمباح وتكون سببا في وجوده أو عدمه كالعلم المتبوع والاعتقاد المتبوع وهو الحكم العملي .
إذا عرف هذان النوعان فمن الناس من يسمي العلم والاعتقاد والحكم والقول الخبري التابع : علم الأصول وأصول الدين أو علم الكلام أو الفقه الأكبر ونحو ذلك من الأسماء المتقاربة وإن اختلفت فيها المقاصد والاصطلاحات . ويسمي النوع الآخر : علم الفروع ; وفروع الدين ; وعلم الفقه والشريعة ونحو ذلك من الأسماء . وهذا اصطلاح كثير من المتفقهة والمتكلمة المتأخرين .
ومن الناس من يجعل أصول الدين اسما لكل ما اتفقت فيه الشرائع مما لا ينسخ ولا يغير ; سواء كان علميا أو عمليا سواء كان من القسم الأول أو الآخر ; حتى يجعل عبادة الله وحده ومحبته وخشيته ونحو ذلك من أصول الدين وقد يجعل بعض الأمور الاعتقادية الخبرية من فروعه ويجعل اسم الشريعة ينتظم العقائد والأعمال ونحو ذلك وهذا اصطلاح غلب على أهل الحديث والتصوف وعليه أئمة الفقهاء وطائفة من أهل الكلام .