الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
[ ص: 145 ] وسئل رحمه الله عن nindex.php?page=treesubj&link=17587_17593لبس الكوفية للنساء . ما حكمها إذا كانت بالدائر والفرق ؟ وفي لبسهن الفراجي ؟ وما الضابط في nindex.php?page=treesubj&link=17593التشبه بالرجال في الملبوس ؟ هل هو بالنسبة إلى ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل زمان بحسبه ؟ .
فأجاب : الحمد لله . الكوفية التي بالفرق والدائر من غير أن تستر الشعر المسدول هي من لباس الصبيان والمرأة اللابسة لذلك متشبهة بهم . وهذا النوع قد يكون أول من فعله من النساء قصدت التشبه بالمردان كما يقصد بعض البغايا أن تضفر شعرها ضفيرا واحدا مسدولا بين الكتفين وأن ترخي لها السوالف وأن تعتم ; لتشبه المردان في العمامة والعذار والشعر . ثم قد تفعل الحرة بعض ذلك لا تقصد هذا ; لكن هي في ذلك متشبهة بالرجال .
وقد استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها بلعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء وفي رواية " { nindex.php?page=hadith&LINKID=598878أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من [ ص: 146 ] النساء } وأمر بنفي المخنثين .
وقد نص على نفيهم الشافعي وأحمد وغيرهما . وقالوا جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفي في حد الزنا ونفي المخنثين . وفي صحيح مسلم عنه أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=598879صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد : كاسيات عاريات مائلات مميلات على رءوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها . ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله } .
وفي السنن أنه { nindex.php?page=hadith&LINKID=598880مر بباب أم سلمة وهي تعتصب فقال : يا أم سلمة لية لا ليتين } وقد فسر قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=11176كاسيات عاريات } بأن تكتسي ما لا يسترها فهي كاسية وهي في الحقيقة عارية مثل من تكتسي الثوب الرقيق الذي يصف بشرتها ; أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها مثل عجيزتها وساعدها ونحو ذلك . وإنما كسوة المرأة ما يسترها فلا يبدي جسمها ولا حجم أعضائها لكونه كثيفا واسعا .
فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب ولا أن يضربن بالخمر على الجيوب ولم يحرم عليهن التبرج تبرج الجاهلية الأولى ; لأن ذلك كان عادة لأولئك وليس الضابط في ذلك لباسا معينا من جهة نص النبي صلى الله عليه وسلم أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده بحيث يقال : إن ذلك هو الواجب وغيره يحرم .
فإن النساء على عهده كن يلبسن ثيابا طويلات الذيل . بحيث ينجر خلف المرأة إذا خرجت والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين ; ولهذا لما { nindex.php?page=hadith&LINKID=598881نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن إسبال الإزار وقيل له : فالنساء ؟ قال : يرخين شبرا قيل له : إذن [ ص: 148 ] تنكشف سوقهن قال : ذراعا لا يزدن عليه } قال الترمذي حديث صحيح .
حتى إنه لأجل ذلك روي أنه nindex.php?page=treesubj&link=17685رخص للمرأة إذا جرت ذيلها على مكان قذر ثم مرت به على مكان طيب أنه يطهر بذلك وذلك قول طائفة من أهل العلم في مذهب أحمد وغيره جعل المجرور بمنزلة النعل الذي يكثر ملاقاته النجاسة فيطهر بالجامد كما يطهر السبيلان بالجامد لما تكرر ملاقاتهما النجاسة .
ثم إن هذا ليس معينا للستر فلو لبست المرأة سراويل أو خفا واسعا صلبا كالموق وتدلى فوقه الجلباب بحيث لا يظهر حجم القدم لكان هذا محصلا للمقصود بخلاف الخف اللين الذي يبدي حجم القدم ; فإن هذا من لباس الرجال . وكذلك المرأة لو لبست جبة وفروة لحاجتها إلى ذلك إلى دفع البرد لم تنه عن ذلك .
فلو قال قائل : لم يكن النساء يلبسن الفراء قلنا : فإن ذلك يتعلق بالحاجة فالبلاد الباردة يحتاج فيها إلى غلظ الكسوة وكونها مدفئة وإن لم يحتج إلى ذلك في البلاد الحارة nindex.php?page=treesubj&link=17667_17678فالفارق بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء . وهو ما يناسب ما يؤمر به الرجال وما تؤمر به النساء . فالنساء مأمورات [ ص: 149 ] بالاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور ; ولهذا لم يشرع لها رفع الصوت في الأذان ولا التلبية ولا الصعود إلى الصفا والمروة ولا التجرد في الإحرام . يتجرد الرجل .
فإن الرجل مأمور أن يكشف رأسه وأن لا يلبس الثياب المعتادة وهي التي تصنع على قدر أعضائه فلا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا الخف لكن لما كان محتاجا إلى ما يستر العورة ويمشي فيه رخص له في آخر الأمر إذا لم يجد إزارا أن يلبس سراويل وإذا لم يجد نعلين أن يلبس خفين . وجعل ذلك بدلا للحاجة العامة بخلاف ما يحتاج إليه حاجة خاصة لمرض أو برد فإن عليه الفدية إذا لبسه ولهذا طرد أبو حنيفة هذا القياس وخالفه الأكثرون للحديث الصحيح . ولأجل الفرق بين هذا وهذا .
وأما المرأة فإنها لم تنه عن شيء من اللباس ; لأنها مأمورة بالاستتار والاحتجاب فلا يشرع لها ضد ذلك لكن منعت أن تنتقب وأن تلبس القفازين ; لأن ذلك لباس مصنوع على قدر العضو ولا حاجة بها إليه .
وقد تنازع الفقهاء nindex.php?page=treesubj&link=17667_3433هل وجهها كرأس الرجل أو كيديه على قولين في مذهب أحمد وغيره . فمن جعل وجهها كرأسه أمرها إذا [ ص: 150 ] سدلت الثوب من فوق رأسها أن تجافيه عن الوجه . كما يجافى عن الرأس ما يظلل به .
ومن جعله كاليدين - وهو الصحيح - قال هي لم تنه عن ستر الوجه وإنما نهيت عن الانتقاب . كما نهيت عن القفازين ; وذلك كما نهى الرجل عن القميص والسراويل ونحو ذلك .
ففي معناه البرقع وما صنع لستر الوجه . فأما تغطية الوجه بما يسدل من فوق الرأس فهو مثل تغطيته عند النوم بالملحفة ونحوها . ومثل تغطية اليدين بالكمين وهي لم تنه عن ذلك .
فلو أراد الرجال أن ينتقبوا ويتبرقعوا ويدعوا النساء باديات الوجوه لمنعوا من ذلك . كذلك المرأة أمرت أن تجتمع في الصلاة ولا تجافي بين أعضائها وأمرت أن تغطي رأسها فلا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولو كانت في جوف بيت لا يراها أحد من الأجانب فدل ذلك على أنها مأمورة من جهة الشرع بستر لا يؤمر به الرجل حقا لله عليها وإن لم يرها بشر . وقد قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=3599&ayano=33وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن } وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=48454صلاة إحداكن [ ص: 151 ] في مخدعها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي } وهذا كله لما في ذلك من الاستتار والاحتجاب .
والمقصود هنا : أن مقصود الثياب تشبه مقصود المساكن والنساء مأمورات في هذا بما يسترهن ويحجبهن فإذا اختلف لباس الرجال والنساء عما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب : كان للنساء وكان ضده للرجال .
وأصل هذا : أن تعلم أن الشارع له مقصودان : ( أحدهما الفرق بين الرجال والنساء .
و ( الثاني nindex.php?page=treesubj&link=17594_17465احتجاب النساء . فلو كان مقصوده مجرد الفرق لحصل ذلك بأي وجه حصل به الاختلاف . وقد تقدم فساد ذلك بل أبلغ من ذلك أن المقصود باللباس إظهار الفرق بين المسلم والذمي ليترتب على كل منها من الأحكام الظاهرة ما يناسبه .
ومعلوم أن هذا يحصل بأي لباس اصطلحت الطائفتان على التميز به ومع هذا فقد روعي في ذلك ما هو أخص من الفرق فإن لباس الأبيض لما كان أفضل من غيره . كما قال صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=598882عليكم بالبياض فليلبسه أحياؤكم . وكفنوا فيه موتاكم } " لم يكن من [ ص: 153 ] السنة أن يجعل لباس أهل الذمة الأبيض ولباس أهل الإسلام المصبوغ كالعسلي والأدكن ونحو ذلك بل الأمر بالعكس .
كذلك في الشعور وغيرها : فكيف الأمر في nindex.php?page=treesubj&link=17667_17668_27417_17603_26232لباس الرجال والنساء ليس المقصود به مجرد الفرق بل لا بد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار .
وكذلك أيضا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال ; بل الفرق أيضا مقصود حتى لو قدر أن الصنفين اشتركوا فيما يستر ويحجب بحيث يشتبه لباس الصنفين لنهوا عن ذلك .
ولهذا جاءت صيغة النهي بلفظ التشبه بقوله صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=15110لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال . والمتشبهين من الرجال بالنساء } " وقال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=15110لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من [ ص: 154 ] النساء } " فعلق الحكم باسم التشبه . ويكون كل صنف يتصف بصفة الآخر .
وقد بسطنا هذه القاعدة في ( اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم وبينا أن المشابهة في الأمور الظاهرة تورث تناسبا وتشابها في الأخلاق والأعمال ولهذا نهينا عن nindex.php?page=treesubj&link=17667_17725_17588مشابهة الكفار ومشابهة الأعاجم ومشابهة الأعراب ونهى كلا من الرجال والنساء عن مشابهة الصنف الآخر كما في الحديث المرفوع : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=598883من تشبه بقوم فهو منهم } " . " { nindex.php?page=hadith&LINKID=33985وليس منا من تشبه بغيرنا } " والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه حتى يفضي الأمر به إلى التخنث المحض والتمكين من نفسه كأنه امرأة .
ولما كان الغناء مقدمة ذلك وكان من عمل النساء : كانوا يسمون الرجال المغنين مخانيث . والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشاركة الرجال : ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجل وتطلب أن تعلو على الرجال كما تعلو الرجال على النساء وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفر المشروع للنساء وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة .
وإذا تبين أنه لا بد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يتميز به الرجال عن النساء . وأن يكون لباس النساء فيه من [ ص: 155 ] الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك : ظهر أصل هذا الباب وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال نهيت عنه المرأة وإن كان ساترا كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء والنهي عن مثل هذا بتغير العادات وأما ما كان الفرق عائدا إلى نفس الستر فهذا يؤمر به النساء بما كان أستر ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر والمشابهة نهي عنه من الوجهين والله أعلم .