( النوع الخامس هو ; بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارة ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخرى . شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما أهل السنة والجماعة عليه متفقون
[ ص: 361 ] أما الأول فقد علم الله الذكر الذي أنزله على رسوله وأمر أزواج نبيه بذكره حيث يقول : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } [ و ] حفظه من أن يقع فيه من التحريف ما وقع فيما أنزل قبله . كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة فعصم حروف التنزيل أن يغير وحفظ تأويله أن يضل فيه أهل الهدى المتمسكون بالسنة والجماعة وحفظ أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم عما ليس فيها من الكذب عمدا أو خطأ بما أقامه من علماء أهل الحديث وحفاظه الذين فحصوا عنها وعن نقلتها ورواتها وعلموا من ذلك ما لا يعلم غيرهم حتى صاروا مجتمعين على ما تلقوه بالقبول منها إجماعا معصوما من الخطأ ; لأسباب يطول وصفها في هذا الموضع . وعلموا هم خصوصا وسائر علماء الأمة بل وعامتها عموما ما صانوا به الدين عن أن يزاد فيه أو ينقص منه مثلما علموا أنه لم يفرض عليهم في اليوم والليلة إلا الصلوات الخمس وأن مقادير ركعاتها ما بين الثنائي والثلاثي والرباعي وأنه لم يفرض عليهم من الصوم إلا شهر رمضان ومن الحج إلا حج البيت العتيق ومن الزكاة إلا فرائضها المعروفة إلى نحو ذلك .
وعلموا كذب أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلمهم بكذب من يزعم من الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 362 ] نص على علي بالخلافة نصا قاطعا جليا وزعم آخرين أنه نص على آل العباس .
وعلموا أكاذيب الرافضة والناصبة - التي يأثرونها في مثل " الغزوات " التي يروونها عن علي وليس لها حقيقة كما يرويها المكذبون الطرقية : مثل أكاذيبهم الزائدة في سيرة عنتر والبطال - حيث علموا مجموع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن القتال فيها كان في تسعة مغاز فقط ولم يكن عدة المسلمين ولا العدو في شيء من مغازي القتال عشرين ألفا .
ومثل " الفضائل " المروية ليزيد بن معاوية ونحوه والأحاديث التي يرويها كثير من الكرامية في الإرجاء ونحوه والأحاديث التي يرويها كثير من النساك في صلوات أيام الأسبوع وفي صلوات أيام الأشهر الثلاثة والأحاديث التي يروونها في استماع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه وتواجده وسقوط البردة عن ردائه وتمزيقه الثوب وأخذ جبريل لبعضه وصعوده به إلى السماء وقتال أهل الصفة مع الكفار واستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء والأحاديث المأثورة في نزول الرب إلى الأرض يوم عرفة وصبيحة مزدلفة ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في الأرض بعين رأسه وأمثال هذه الأحاديث المكذوبة التي يطول وصفها فإن المكذوب من ذلك لا يحصيه أحد إلا الله تعالى . لأن الكذب يحدث شيئا فشيئا ليس بمنزلة الصدق [ ص: 363 ] الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يحدث بعده وإنما يكون موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول وورثة الأنبياء .
وكان من الدلائل على انتفاء هذه الأمور المكذوبة وغيرها وجوه : ( أحدها : أن ما توفرت همم الخلق ودواعيهم على نقله وإشاعته يمتنع في العادة كتمانه فانفراد العدد القليل به يدل على كذبهم كما يعلم كذب من خرج يوم الجمعة وأخبر بحادثة كبيرة في الجامع مثل سقوط الخطيب وقتله وإمساك أقوام في المسجد إذا لم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان ويعلم كذب من أخبر أن في الطرقات بلادا عظيمة وأمما كثيرين ولم يخبر بذلك السيارة وإنما انفرد به الواحد والاثنان ويعلم كذب من أخبر بمعادن ذهب وفضة متيسرة لمن أرادها بمكان يعلمه الناس ولم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان وأمثال ذلك كثيرة فباعتبار العقل وقياسه وضربه الأمثال يعلم كذب ما ينقل من الأمور التي مضت سنة الله بظهورها وانتشارها لو كانت موجودة .
كما يعلم أيضا صدق ما مضت سنة الله في عباده أنهم لا يتواطئون فيه على الكذب من الأمور المتواترة والمنقولات المستفيضة فإن الله جبل جماهير الأمم على الصدق والبيان في مثل هذه الأمور دون [ ص: 364 ] الكذب والكتمان كما جبلهم على الأكل والشرب واللباس فالنفس بطبعها تختار الصدق إذا لم يكن لها في الكذب غرض راجح وتختار الأخبار بهذه الأمور العظيمة دون كتمانها .
والناس يستخبر بعضهم بعضا ويميلون إلى الاستخبار والاستفهام عما يقع وكل شخص له من يؤثر أن يصدقه ويبين له دون أن يكذبه ويكتمه والكذب والكتمان يقع كثيرا في بني آدم في قضايا كثيرة لا تنضبط كما يقع منهم الزنا وقتل النفوس والموت جوعا وعريا ونحو ذلك لكن ليس الغالب على أنسابهم إلا الصحة وعلى أنفسهم إلا البقاء فالغرض هنا أن الأمور المتواترة يعلم أنهم لم يتواطئوا فيها على الكذب والأخبار الشاذة يعلم أنهم لم يتواطئوا فيها على الكتمان .
( الوجه الثاني : أن فتواطؤهم على كتمان ما يجب بيانه كتواطئهم على الكذب وكلاهما من أقبح الأمور التي تحرم في دين الأمة وذلك باعث موجب الصدق والبيان . دين الأمة يوجب عليهم تبليغ الدين وإظهاره وبيانه ويحرم عليهم كتمانه ويوجب عليهم الصدق ويحرم عليهم الكذب
( الثالث : أنه قد علم من عدل سلف الأمة ودينها وعظيم رغبتها في تبليغ الدين وإظهاره وعظيم مجانبتها للكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم [ ص: 365 ] ما يوجب أعظم العلوم الضرورية ; بأنهم لم يكذبوا فيما نقلوه عنه ولا كتموا ما أمرهم بتبليغه وهذه العادة الحاجية الخاصة الدينية لهم غير العادة العامة المشتركة بين جنس البشر .
( الرابع : أن العلماء الخاصة يعلمون من نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجبة عليهم التبليغ ومن تعظيمهم لأمر الله ورسوله ومن دين آحادهم : مثل الخلفاء ومثل ابن مسعود وأبي ومعاذ - إلى وأبي الدرداء ابن عمر وابن عباس وابن عمرو وغيرهم . يعلمون علما يقينا - لا يتخالجه ريب - امتناع هؤلاء من كتمان قواعد الدين التي يجب تبليغها إلى العامة كما يعلمون امتناعهم من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويعلم أيضا أهل الحديث مثل أحوال المشاهير بمعرفة ذلك مثل الزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير ومثل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد وغيرهم أمورا يعلمون معها امتناعهم من الكذب وامتناعهم عن كتمان تبليغ هذه الأمور العظيمة التي تأبى أحوالهم كتمانها لو كانت موجودة ولهم في ذلك أسباب يطول شرحها وليس الغرض هنا تقرير ذلك . وإنما الغرض التنبيه على ما وقع من الشبهة لبعض الناس من أهل الأهواء . وحماد بن سلمة