[ ص: 238 ] فصل : وقد في قوله تعالى { أثبت الله في القرآن إسلاما بلا إيمان قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا } . وقد ثبت في " الصحيحين { سعد بن أبي وقاص قال : أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رهطا وفي رواية قسم قسما وترك فيهم من لم يعطه وهو أعجبهم إلي فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسلما . أقولها ثلاثا ويرددها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثم قال : إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله على وجهه في النار } وفي رواية : { عن سعد } . فضرب بين عنقي وكتفي وقال : أقتال أي
فهذا هل هو إسلام يثابون عليه ؟ أم هو من جنس إسلام المنافقين ؟ فيه قولان مشهوران الإسلام الذي نفى الله عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم للسلف والخلف : أحدهما : أنه إسلام يثابون عليه ويخرجهم من الكفر والنفاق . وهذا مروي عن الحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعي [ ص: 239 ] وأبي جعفر الباقر ; وهو قول حماد بن زيد وأحمد بن حنبل وسهل بن عبد الله التستري وأبي طالب المكي وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق .
قال : حدثنا أحمد بن حنبل مؤمل بن إسحاق عن عمار بن زيد قال : سمعت هشاما يقول : كان الحسن ومحمد يقولان : مسلم ويهابان : مؤمن . وقال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : قال أبو سلمة الخزاعي مالك وشريك وأبو بكر بن عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد بن سلمة : " الإيمان " المعرفة والإقرار والعمل إلا أن وحماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان يجعل الإيمان خاصا والإسلام عاما . حماد بن زيد
و ( القول الثاني ) : أن هذا الإسلام : هو الاستسلام خوف السبي والقتل مثل إسلام المنافقين . قالوا : وهؤلاء كفار فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر . وهذا اختيار البخاري ومحمد بن نصر المروزي والسلف مختلفون في ذلك .
قال : حدثنا محمد بن نصر إسحاق أنبأنا جرير عن مغيرة قال : أتيت إبراهيم النخعي فقلت : إن رجلا خاصمني يقال له : سعيد العنبري فقال إبراهيم ليس بالعنبري ولكنه زبيدي . قوله : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } فقال : هو الاستسلام فقال إبراهيم : لا هو الإسلام . وقال : حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن [ ص: 240 ] مجاهد : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } قال : استسلمنا خوف السبي والقتل . ولكن هذا منقطع سفيان لم يدرك مجاهدا .
والذين قالوا : إن هذا الإسلام هو كإسلام المنافقين لا يثابون عليه قالوا : لأن الله نفى عنهم الإيمان ومن نفي عنه الإيمان فهو كافر . وقال هؤلاء : الإسلام هو الإيمان وكل مسلم مؤمن . وكل مؤمن مسلم ومن جعل الفساق مسلمين غير مؤمنين لزمه أن لا يجعلهم داخلين في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } وفي قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } وأمثال ذلك فإنهم إنما دعوا باسم الإيمان لا باسم الإسلام فمن لم يكن مؤمنا لم يدخل في ذلك .
وجواب هذا أن يقال : الذين قالوا من السلف : إنهم خرجوا من الإيمان إلى الإسلام لم يقولوا : إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء بل هذا قول الخوارج والمعتزلة . وأهل السنة الذين قالوا هذا يقولون : الفساق يخرجون من النار بالشفاعة . وإن معهم إيمانا يخرجون به من النار . لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب ودخول الجنة وهؤلاء ليسوا من أهله وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان لأن الخطاب بذلك هو لمن دخل في الإيمان وإن لم يستكمله فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان فكيف يكون قد أتمه قبل الخطاب وإلا كنا قد تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل الخطاب ; وإنما صار من الإيمان بعد أن أمروا به فالخطاب ب { يا أيها الذين آمنوا } غير قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } ونظائرها فإن الخطاب ب { يا أيها الذين آمنوا } أولا : يدخل فيه من أظهر الإيمان وإن كان منافقا في الباطن يدخل فيه في الظاهر فكيف لا يدخل فيه من لم يكن منافقا وإن لم يكن من المؤمنين حقا .
وحقيقته أن من لم يكن من المؤمنين حقا يقال فيه : إنه مسلم ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار وهذا متفق عليه بين أهل السنة . لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان ؟ هذا هو الذي تنازعوا فيه فقيل : يقال مسلم ولا يقال : مؤمن . وقيل : بل يقال : مؤمن .
والتحقيق أن يقال : إنه مؤمن ناقص الإيمان مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ولا يعطى اسم الإيمان المطلق ; فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق ; واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه وهو لازم له كما يلزمه غيره وإنما الكلام في اسم المدح المطلق ; وعلى هذا " : يدخل فيه المؤمن حقا ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار ; وهو في الباطن ينفي عنه الإسلام والإيمان وفي الظاهر يثبت له الإسلام والإيمان الظاهر ; ويدخل فيه الذين أسلموا وإن لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم ; لكن معهم جزء من الإيمان والإسلام يثابون عليه . فالخطاب بالإيمان يدخل فيه " ثلاث طوائف
[ ص: 242 ] ثم قد يكونون مفرطين فيما فرض عليهم وليس معهم من الكبائر ما يعاقبون عليه كأهل الكبائر لكن يعاقبون على ترك المفروضات وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم ; فإنهم قالوا : آمنا من غير قيام منهم بما أمروا به باطنا وظاهرا . فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم ولا جاهدوا في سبيل الله وقد كان دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد وقد يكونون من أهل الكبائر المعرضين للوعيد ; كالذين يصلون ويزكون ويجاهدون ويأتون الكبائر ; وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام ; بل هم مسلمون ولكن بينهم نزاع لفظي : هل يقال : إنهم مؤمنون كما سنذكره إن شاء الله ؟ .
وأما " الخوارج " ; " والمعتزلة " فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام ; فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد ; فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام ; لكن الخوارج تقول : هم كفار ; والمعتزلة تقول : لا مسلمون ولا كفار ; ينزلونهم منزلة بين المنزلتين ; والدليل على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين أنه قال : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ثم قال : { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا } فدل على أنهم إذا أطاعوا الله ورسوله مع هذا الإسلام ; آجرهم الله على الطاعة . والمنافق عمله حابط في الآخرة .
وأيضا فإنه وصفهم بخلاف صفات المنافقين فإن المنافقين وصفهم بكفر في قلوبهم وأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون ; كما قال تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } الآيات .
وقال : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } فالمنافقون يصفهم في القرآن بالكذب ; وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وبأن في قلوبهم من الكفر ما يعاقبون عليه ; وهؤلاء لم يصفهم بشيء من ذلك لكن لما ادعوا الإيمان قال للرسول : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا } .
ونفي الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين كما في قوله : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } ثم قال : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } { أولئك هم المؤمنون حقا } ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك ; يكون منافقا من أهل الدرك الأسفل من النار بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب فنفي عنه كما ينفى سائر الأسماء عمن ترك بعض ما يجب عليه فكذلك الأعراب لم يأتوا بالإيمان الواجب ; فنفي عنهم لذلك وإن كانوا مسلمين معهم من الإيمان ما يثابون عليه .
وهذا حال أكثر الداخلين في الإسلام ابتداء ; بل حال أكثر من لم يعرف [ ص: 244 ] حقائق الإيمان ; فإن الرجل إذا قوتل حتى أسلم كما كان الكفار يقاتلون حتى يسلموا أو أسلم بعد الأسر أو سمع بالإسلام فجاء فأسلم ; فإنه مسلم ملتزم طاعة الرسول ولم تدخل إلى قلبه المعرفة بحقائق الإيمان فإن هذا إنما يحصل لمن تيسرت له أسباب ذلك ; إما بفهم القرآن وإما بمباشرة أهل الإيمان والاقتداء بما يصدر عنهم من الأقوال والأعمال وإما بهداية خاصة من الله يهديه بها .
والإنسان قد يظهر له من محاسن الإسلام ما يدعوه إلى الدخول فيه وإن كان قد ولد عليه وتربى بين أهله فإنه يحبه فقد ظهر له بعض محاسنه وبعض مساوئ الكفار . وكثير من هؤلاء قد يرتاب إذا سمع الشبه القادحة فيه ولا يجاهد في سبيل الله ; فليس هو داخلا في قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } وليس هو منافقا في الباطن مضمرا للكفر فلا هو من المؤمنين حقا ولا هو من المنافقين ولا هو أيضا من أصحاب الكبائر بل يأتي بالطاعات الظاهرة ولا يأتي بحقائق الإيمان التي يكون بها من المؤمنين حقا ; فهذا معه إيمان وليس هو من المؤمنين حقا ويثاب على ما فعل من الطاعات ولهذا قال تعالى : { ولكن قولوا أسلمنا } ولهذا قال : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } يعني في قولكم : { آمنا } . يقول : إن كنتم صادقين فالله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ; وهذا [ ص: 245 ] يقتضي أنهم قد يكونون صادقين في قولهم : { آمنا } .
ثم صدقهم إما أن يراد به اتصافهم بأنهم { آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وإما أن يراد به أنهم لم يكونوا كالمنافقين بل معهم إيمان وإن لم يكن لهم أن يدعوا مطلق الإيمان وهذا أشبه والله أعلم لأن النسوة الممتحنات قال فيهن : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } ولا يمكن نفي الريب عنهن في المستقبل ولأن الله إنما كذب المنافقين ولم يكذب غيرهم ; وهؤلاء لم يكذبهم ولكن قال : { لم تؤمنوا } كما قال : { } وقوله : { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } و { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } وهؤلاء ليسوا منافقين . وسياق الآية يدل على أن الله ذمهم لكونهم منوا بإسلامهم لجهلهم وجفائهم وأظهروا ما في أنفسهم مع علم الله به ; فإن الله تعالى قال : { لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } فلو لم يكن في قلوبهم شيء من الدين لم يكونوا يعلمون الله بدينهم ; فإن الإسلام الظاهر يعرفه كل أحد .
ودخلت الباء في قوله : { أتعلمون الله بدينكم } لأنه ضمن معنى يخبرون ويحدثون كأنه قال : أتخبرونه وتحدثونه بدينكم وهو يعلم ما في السموات وما في الأرض . وسياق الآية يدل على أن الذي أخبروا به الله هو ما ذكره الله عنهم من قولهم : { آمنا } فإنهم أخبروا عما في قلوبهم .
[ ص: 246 ] وقد ذكر المفسرون أنه { لما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون أنهم مؤمنون صادقون فنزل قوله تعالى { قل أتعلمون الله بدينكم } } وهذا يدل على أنهم كانوا صادقين أولا في دخولهم في الدين لأنه لم يتجدد لهم بعد نزول الآية جهاد حتى يدخلوا به في الآية إنما هو كلام قالوه وهو سبحانه قال : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ولفظ : ( لما ينفي به ما يقرب حصوله ويحصل غالبا كقوله : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم }
وقد قال السدي : نزلت هذه الآية في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وهم الذين ذكرهم الله في سورة الفتح وكانوا يقولون : آمنا بالله ليأمنوا على أنفسهم فلما استنفروا إلىالحديبية تخلفوا ; فنزلت فيهم هذه الآية .
وعن مقاتل : كانت منازلهم بين مكة والمدينة وكانوا إذا مرت بهم سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : آمنا ليأمنوا على دمائهم وأموالهم فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية استنفرهم فلم ينفروا معه .
وقال مجاهد : نزلت في أعراب بني أسد بن خزيمة ووصف غيره حالهم . فقال : قدموا المدينة في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارهم وكانوا يمنون على رسول الله [ ص: 247 ] صلى الله عليه وسلم يقولون : أتيناك بالأثقال والعيال فنزلت فيهم هذه الآية وقد قال قتادة في قوله : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } قال : منوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءوا فقالوا : إنا أسلمنا بغير قتال لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان فقال الله لنبيه : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } .
وقال مقاتل بن حيان : هم { أعراب بني أسد بن خزيمة قالوا : يا رسول الله أتيناك بغير قتال وتركنا العشائر والأموال وكل قبيلة من العرب قاتلتك حتى دخلوا كرها في الإسلام ; فلنا بذلك عليك حق : فأنزل الله تعالى : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } } . فله بذلك المن عليكم وفيهم أنزل الله : { ولا تبطلوا أعمالكم } ويقال : من الكبائر التي ختمت بنار كل موجبة من ركبها ومات عليها لم يتب منها .
وهذا كله يبين أنهم لم يكونوا كفارا في الباطن ; ولا كانوا قد دخلوا فيما يجب من الإيمان ; وسورة الحجرات قد ذكرت هذه الأصناف فقال : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } ولم يصفهم بكفر ولا نفاق ; لكن هؤلاء يخشى عليهم الكفر والنفاق ولهذا ارتد بعضهم لأنهم لم يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم وقال بعد ذلك { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } الآية وهذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة وكان قد كذب فيما أخبر .
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في { الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فسار بعض الطريق ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إليهم فنزلت هذه الآية } .
وهذه القصة معروفة من وجوه كثيرة ثم قال تعالى في تمامها : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } وقال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى } الآية . ثم نهاهم عن أن يسخر بعضهم ببعض وعن اللمز والتنابز بالألقاب وقال : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } وقد قيل : معناه : لا تسميه فاسقا ولا كافرا بعد إيمانه وهذا ضعيف بل المراد : بئس الاسم أن تكونوا فساقا بعد إيمانكم كما قال تعالى في الذي كذب : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } فسماه فاسقا .
وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } يقول : فإذا ساببتم المسلم وسخرتم منه ولمزتموه استحققتم أن تسموا فساقا وقد قال في آية القذف : { سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } . يقول : فإذا أتيتم بهذه الأمور التي تستحقون بها أن تسموا [ ص: 249 ] فساقا كنتم قد استحققتم اسم الفسوق بعد الإيمان وإلا فهم في تنابزهم ما كانوا يقولون : فاسق كافر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبعضهم يلقب بعضا .
وقد قال طائفة من المفسرين في هذه الآية : كقوله لليهودي إذا أسلم : يا يهودي ، وهذا مروي عن لا تسميه بعد الإسلام بدينه قبل الإسلام ابن عباس وطائفة من التابعين كالحسن وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني والقرظي وقال عكرمة : هو قول الرجل : يا كافر يا منافق وقال عبد الرحمن بن زيد : هو تسمية الرجل بالأعمال كقوله : يا زاني يا سارق يا فاسق وفي تفسير العوفي عن ابن عباس قال : هو تعيير التائب بسيئات كان قد عملها ومعلوم أن اسم الكفر واليهودية والزاني والسارق وغير ذلك من السيئات ليست هي اسم الفاسق فعلم أن قوله : { بئس الاسم الفسوق } لم يرد به تسمية المسبوب باسم الفاسق فإن تسميته كافرا أعظم بل إن الساب يصير فاسقا لقوله : { } ثم قال : { سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } فجعلهم ظالمين إذا لم يتوبوا من ذلك وإن كانوا يدخلون في اسم المؤمنين ثم ذكر النهي عن الغيبة ثم ذكر النهي عن التفاخر بالأحساب وقال : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } . ثم ذكر قول الأعراب : { آمنا } .
فالسورة تنهى عن هذه المعاصي والذنوب التي فيها تعد على الرسول وعلى [ ص: 250 ] المؤمنين فالأعراب المذكورون فيها من جنس المنافقين . وأهل السباب والفسوق والمنادين من وراء الحجرات وأمثالهم ليسوا من المنافقين ولهذا قال المفسرون : إنهم الذين استنفروا عام الحديبية وأولئك وإن كانوا من أهل الكبائر فلم يكونوا في الباطن كفارا منافقين .
قال : { ابن إسحاق لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرة - عمرة الحديبية - استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه خوفا من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد فتثاقل عنه كثير منهم } فهم الذين عنى الله بقوله : { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا } أي ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } أي ما يبالون استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم وهذا حال الفاسق الذي لا يبالي بالذنب والمنافقون قال فيهم : { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } ولم يقل مثل هذا في هؤلاء الأعراب بل الآية دليل على أنهم لو صدقوا في طلب الاستغفار نفعهم استغفار الرسول لهم
ثم قال : { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما } فوعدهم الله بالثواب على طاعة الداعي إلى الجهاد وتوعدهم بالتولي عن طاعته . وهذا كخطاب أمثالهم من أهل الذنوب والكبائر ; بخلاف من هو كافر [ ص: 251 ] في الباطن فإنه لا يستحق الثواب بمجرد طاعة الأمر حتى يؤمن أولا ووعيده ليس على مجرد توليه عن الطاعة في الجهاد فإن كفره أعظم من هذا .
فهذا كله يدل على أن هؤلاء من فساق الملة فإن الفسق يكون تارة بترك الفرائض وتارة بفعل المحرمات وهؤلاء لما تركوا ما فرض الله عليهم من الجهاد وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم لم يكونوا من الصادقين الذين وصفهم وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام .
وقول المفسرين : لم يكونوا مؤمنين نفي لما نفاه الله عنهم من الإيمان كما نفاه عن الزاني والسارق والشارب وعمن لا يأمن جاره بوائقه وعمن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه ; وعمن لا يجيب إلى حكم الله ورسوله وأمثال هؤلاء .
وقد يحتج على ذلك بقوله : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } كما قال : { } فذم من استبدل اسم الفسوق بعد الإيمان ; فدل على أن الفاسق لا يسمى مؤمنا فدل ذلك على أن هؤلاء سباب المسلم فسوق وقتاله كفر الأعراب من جنس أهل الكبائر لا من جنس المنافقين .
وأما ما نقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي ; فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار أسلموا رغبة ورهبة كإسلام الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي صلى الله عليه وسلم وإسلام المؤلفة قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نجد وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل [ ص: 252 ] من النار ; بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في قلوبهم تكذيب ومعاداة للرسول ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان ولا استبصروا فيه ; وهؤلاء قد يحسن إسلام أحدهم فيصير من المؤمنين كأكثر الطلقاء وقد يبقى من فساق الملة ; ومنهم من يصير منافقا مرتابا { } . إذا قال له منكر ونكير : ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته
وقد تقدم قول من قال : إنهم أسلموا بغير قتال ; فهؤلاء كانوا أحسن إسلاما من غيرهم وأن الله إنما ذمهم لكونهم منوا بالإسلام وأنزل فيهم { ولا تبطلوا أعمالكم } وأنهم من جنس أهل الكبائر .
وأيضا قوله : { ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } { ولما } إنما ينفي بها ما ينتظر ويكون حصوله مترقبا كقوله : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } وقوله : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } فقوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم ; فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء لا يكون قد حصل في قلبه الإيمان لكنه يحصل فيما بعد كما في الحديث : { كان الرجل يسلم أول النهار رغبة في الدنيا فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس } .
ولهذا كان عامة الذين أسلموا رغبة ورهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك ; وقوله : { ولكن قولوا أسلمنا } [ ص: 253 ] أمر لهم بأن يقولوا ذلك والمنافق لا يؤمر بشيء ثم قال : { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا } والمنافق لا تنفعه طاعة الله ورسوله حتى يؤمن أولا .
وهذه الآية مما احتج بها وغيره على أنه يستثنى في الإيمان دون الإسلام وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام . أحمد بن حنبل
قال الميموني : سألت عن رأيه في : أنا مؤمن إن شاء الله ؟ فقال : أقول : مؤمن إن شاء الله وأقول : مسلم ولا أستثني قال : قلت أحمد بن حنبل لأحمد : تفرق بين الإسلام والإيمان ؟ فقال لي : نعم فقلت له : بأي شيء تحتج ؟ قال لي : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } وذكر أشياء .