إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح .
الاستفتاح: السين والتاء لطلب الفتح، وهو النصر أو الفصل بين الحق والباطل، كقوله تعالى: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق
وهل استفتح المشركون؟ أي: أيعد الخطاب للمشركين أم يعد الخطاب للمؤمنين؟ إن الخطاب في الآيات السابقة لهذه الآية للمؤمنين، مثل: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وقوله تعالى: ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين وهكذا تجد الآيات السابقة المخاطب فيها المؤمنون، والمتحدث عنهم بالغيبة الكافرون، وكان مقتضى السياق ذلك كما هو فيما بعد هذه.
لكن طائفة من المفسرين قالوا: إن الخطاب للمشركين؛ لأنهم استفتحوا فعلا بالله الذي كانوا يعلمونه، وإن لم يوحدوه في العبودية، ولقد ذكر الزمخشري وابن كثير عدة صور من عبارات استفتاحهم، فيروى أنهم عندما أرادوا أن ينفروا لحماية العير، ومحاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم [ ص: 3090 ] انصر قرانا للضيف، ووصلنا للرحم، وفكنا للعاني، إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا. وابن جرير
ويروى أنهم قالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين. ويروى أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فأحنه، أي فأهلكه.
هذه صور للاستفتاح المروي، وإن صح أن الاستفتاح كان منهم فلعلها جميعها قد وقعت منهم، والاختلاف اختلاف عبارات لآحادهم لا لجمعهم.
وقوله تعالى: فقد جاءكم الفتح قال : إنه تهكم عليهم، من حيث إن الفتح كان على غير ما يرغبون، وقد يقال: إنه أريد الحد، لأنكم إذا كنتم تستفتحون طالبين الفصل بينكم وبين الزمخشري محمد - صلى الله عليه وسلم - فها هو ذا الفصل، فاخضعوا له، ولكنهم لا يطلبون حقا، ولا يخضعون للحق، وإن تنتهوا بالإيمان بالحق بموجب استفتاحكم ووعدكم فهو الإيمان وهو خير لكم، وإن تعودوا إلى الباطل ومحاربة محمد ومن معه نعد إليهم بالنصر، ولن تغني عنكم جماعتكم وكثرتكم شيئا ولو كثرت، وإن الله تعالى مع المؤمنين دائما بنصره وتأييده، وقد رأيتم مرات هذا النصر وذلك التأييد، فصارت كلمتهم هي العليا، والله عزيز حكيم.
هذا هو توجيه القول الكريم على أساس أن الخطاب للمشركين، وهو ظاهر لا يقاومه إلا سياق الآيات السابقة قبلها وبعدها.
وأما تخريج القول الكريم على أن الخطاب للمؤمنين فإنه يؤيد سياق الخطاب، ويكون المعنى: إن تستفتحوا أيها المؤمنون بأن تتضرعوا إلى الله تعالى طالبين الفتح والنصر، وتستغيثون به - فقد جاءكم النصر فعلا، ومعه الغنائم التي طلبتموها وأردتموها، وقد علمتم أن ذلك بفضل الطاعة، والامتناع عن العصيان وإن تنتهوا فهو خير لكم أي: إن تنتهوا إلى الطاعة وإصلاح ذات بينكم وتقوية جمعكم - فهو خير لكم وإن تعودوا نعد أي: إن تعودوا إلى المشاحنة والخلاف [ ص: 3091 ] على الغنائم والمنازعة نعد لكم بالخذلان والفشل، كما قال تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ولا تغني الكثرة شيئا مع الاختلاف؛ لأن الاختلاف لا يكون فيه القوة على العدو، ولكن يكون بأسهم بينهم شديدا، فحربهم على أنفسهم لا على أعدائهم، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك فقال: ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت
أكد سبحانه وتعالى النفي بـ"لن" وأنه لا يغني أي شيء ولو قليلا، وثالثا أنه لا يغني مع الكثرة. وإن الله سبحانه وتعالى علام الغيوب، يخبر بما سيكون يوم أحد، فقد كانت معهم قوة، وسابقة نصر، ولكن لم يطيعوا واختلفوا على الغنائم فلم ينتصروا، ولا نقول انهزموا، بل كان الأمر بينهما.
ذلكم تخريجان، ونحن نرى أن الأقرب إلى سياق الآيات، وإلى سياق الأمر بالطاعة، وإلى الانسجام البياني المعجز - أن نقول: إن الخطاب للمؤمنين تحذيرا وإنذارا.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالت حكمته وكلماته: وأن الله مع المؤمنين "أن" مفتوحة الهمزة للدلالة على أنها متعلقة بقوله تعالى: وأن الله موهن كيد الكافرين ويكون هذا قرينة على أن الخطاب للمؤمنين وليس للكافرين، وهناك قراءة تقول: إن "إن" مكسورة.
والتعبير بقوله تعالى: وأن الله مع المؤمنين سواء أكانت أن مكسورة أو مفتوحة يدل على أمرين:
أحدهما - أن الله تعالى مع المؤمنين، ينصرهم، ويكون الفتح في جانبهم ومعهم دائما.
والثاني - أن ذلك يكون إذا تخلقوا بأخلاق المؤمنين، ولم يتفرقوا، حتى لا يفشلوا فتذهب ريحهم.