وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم .
وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله : والله لا يحب الفساد وذلك لعدة أمور :
أولا - لبيان أن ، ويضل عن بينة ، ويسعى في الأرض بالفساد ; إذ الله لا يحب الفساد فلا يحب المفسدين ، ومن لا يحبه الله فهو بعيد عن رحمته ، معرض لنقمته . الله لا يحب ذلك الصنف من الناس الذي يخدع الناس ويكذب على الله ، ويجادل ويماري
ثانيا - ولبيان أن ، فهو الغني الحميد الذي لا يكسب من عبادة عابد ; ولا يضار من فسق فاسق ; إنما الأمر في ذلك إلى مصلحة الناس ودفع الضر عنهم . الله سبحانه وتعالى لا يريد بما فرض من عبادات إلا مصلحة الناس ودفع الضر عنهم
ثالثا - وفوق ذلك هذا التذييل يدل على أن ، فما من أمر شرعه الله إلا فيه جلب نفع أو دفع ضرر ، وأن دفع الضرر ، مقدم على جلب النفع ، وأن شرع الله كله أساسه إقامة المصلحة ودفع المضرة . دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص ، وأن جلب المنفعة العامة مقدم على جلب المنفعة الخاصة
رابعا - وإن هذا التذييل فوق ذلك يشير إلى أن الله سبحانه استخلف الإنسان في هذه الأرض ليعمرها لا ليفسدها، فأولئك الذين يبذلون الجهود العقلية ليصلوا [ ص: 644 ] إلى ما يدمر الأرض ويخربها ويجعلوا عاليها سافلها قد ضلوا عن سنة الله ، وخرجوا على قانون الفطرة وهم بعيدون عن محبة الله ; لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون .
وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد هذه حال الطغاة يرتكبون ما يرتكبون ، وينزلون بالناس ما ينزلون ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ; وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ، وإذا كانت النوازل تنزل بالضعفاء لم يلتفتوا إليها لعماية الطغيان وفساد البصر والمدارك ، فإذا تقدم أحد الناس مرشدا واعظا نهروه ، وربما امتدت إليه أيديهم بالأذى ، وأخذتهم العزة ; أي الاستعلاء الجاهلي وحماقة الكبرياء ; ودفعتهم الجرائم إلى إثم آخر فوق إثم الطغيان ، وفوق ما ارتكبوا من آثام ، وما أنزلوا بالضعفاء من آلام .
والباء في قوله تعالى : ( بالإثم ) إما أن تكون بمعنى المصاحبة والاقتران ، والمعنى على هذا أخذتهم العزة واستولت عليهم مقترنة بالإثم مصاحبة له ، فهي ليست عزة محمودة ، بل كبرياء مبغوضة ; أو تكون الباء للسببية بمعنى لام التعليل ، ويكون المعنى : أخذتهم العزة الغاشمة والعنجهية الظالمة بسبب الإثم الذي استغرق قلوبهم وأحاط بنفوسهم ، أي أنهم لفرط ما ارتكبوا من آثام ، قد أحاطت بهم خطيئاتهم فسدت مسارب الهداية إلى قلوبهم ، فإذا سمعوا كلمة الرشاد لم يتقبلوها ، وأنغضوا رءوسهم حاسبين أن ذلك إهانة لسلطانهم ; وإصغار لشأنهم ، وما هو في حقيقة الأمر إلا حماية للسلطان ، وإكبار للأمر ، وخصوصا إذا كان من ناصح أمين .
وإذا كانت تلك حالهم فلا صلاح لهم في الدنيا ; وهم في إحدى حالين ، وكلتاهما نتيجتها السوءى : إما أن يديل الله منهم في الدنيا ، ويجعلهم عبرة المعتبرين ، ويذيقهم وبال أمرهم في الدنيا ، وتمامه في الآخرة . . وإما أن يمهلهم ويملي لهم حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، ويلقي بهم في نار جهنم ; ولذا قال سبحانه : فحسبه جهنم ولبئس المهاد الفاء هنا للإفصاح ، لأنها تفصح عن شرط مقدر ، أي إذا كانت هذه حال ذلك الطاغي الفاجر : لا يقيم الحق ، بل يفسد ، [ ص: 645 ] ولا يطيع الناصح بل يؤذيه ، وربما يقتله ; فالله كافيه ومتوليه ، وهو العزيز المنتقم الجبار ، والله سبحانه ينزل به العذاب الأليم ، بإلقائه في نار الجحيم ; فمعنى فحسبه جهنم أي جهنم هي التي تكفيه ، بدل كلمة الحق التي كانت تؤذيه ، ولبئس المهاد اللام هنا تنبئ عن قسم مقدر وهي داخلة على جوابه ، والمهاد جمع مهد ، وهو المكان المهيأ للنوم ، والتعبير عن جهنم بأنها بئس المهاد لا يخلو من تهكم بأولئك الفاجرين ، كما يقال : ( تحية بينهم ضرب وجيع ) وكقوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم
وبعد ، فإن أول مظاهر الطغيان صم الآذان عن سماع كلمة الحق ; ولعل الأمارة الظاهرة للحاكم العادل هي سماعه النقد والملام ، فضلا عن الوعظ والإرشاد ; وأمارة الحاكم الطاغي تبرمه بنصح الناصحين ونقد الناقدين فضلا عن لوم اللائمين ; والمثل في التاريخ كثيرة مستفيضة ; يروى أن رجلا قال أمثل الحكام : اتق الله ، فقال بعض الحاضرين أوتقول لأمير المؤمنين : لعمر بن الخطاب اتق الله فالتفت ، وقال : ألا فليقلها ، لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نسمعها ! الفاروق هذا هو الذي صاح عندما تولى : من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه فقال أعرابي : والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا ! فقال أبو وعمر حفص : الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم إذا اعوج ! ولو تنزلنا عن مقام عمر مقام الصديقين لوجدنا من بعض الحاكمين حتى في عصور الاستبداد من يستمع إلى كلمة الحق أحيانا ; يروي التاريخ أن يهوديا له حاجة تلقى عمر ، وهو خارج ، وقال له : اتق الله يا أمير المؤمنين وذكر حاجته ، فنزل هارون الرشيد هارون عن دابته وخر ساجدا ، ثم أمر فقضيت لليهودي حاجته ; فقيل له : يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك لقول يهودي ! قال : لا ، ولكن تذكرت قول الله تعالى : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد .
وبجوار هذه الذكريات العطرة ، توجد صور معتمة ; ومن ذلك ما قاله أحد ملوك بني أمية : من قال لي : اتق الله قطعت عنقه .
[ ص: 646 ] بل إن هذه الصورة المعتمة هي التي يسود بها تاريخ المستبدين ، فإن لم يقولوها بلسان المقال قالوها بلسان الفعال ، وهو أقوى أثرا وأبعد طغيانا ; ولذلك كان من الجهاد في سبيل الله : أن يقول المؤمن لهم كلمة الحق ; وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " " . أفضل الجهاد كلمة حق لسلطان جائر