ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله بعد أن ذكر الله سبحانه بعض الناس الذين يعدون داء الجماعات التي تؤدي إلى الفساد ، وإلى الهلاك ، وحالهم إذا تولوا حكم الناس - ذكر أهل الفضل الذين يعدون دواء هذا الداء ، وعلاج ذلك المرض الفتاك ، وصلاح ذلك الفساد ; فإنه إذا كان طغيان بعض الولاة هو الذي يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل ، فأولئك الأبرار الذين يجاهدون الطغيان هم الذين يقفون تياره ، ويصدعون بأمر الله ، وهم الذين باعوا أنفسهم مجاهدين ناطقين بكلمة الحق ; ولذا قال سبحانه : ومن الناس من يشري نفسه أي يبيع نفسه لله سبحانه ; فيفدي دين الله والحق بنفسه وماله وكل ما يملك وفي ذكر الفريق المقابل لأهل الشر بذلك الوصف الذي يشعر بأن أخص حالهم بذل النفس والنفيس ، لا مجرد الإخلاص والبراءة من النفاق - إشارة إلى عظم المهمة الملقاة على عاتقهم ، وهي مجاهدة الشر والتغلب عليه ، وإزالة أوضاره ; فإن ذلك يقتضي التعرض للأذى ، بل للتلف ، ومن قتل في سبيله قتل شهيدا ، بل إنه يكون أفضل الشهداء ، كما صرح بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 647 ] وإن هذا وتعالى ; ولذا قال سبحانه فيما يطلبه : الذي يبيع نفسه لله سبحانه ، ويفدي الحق بنفسه وماله ، لا يطلب إلا ثمنا واحدا ، هو أعلى الأثمان ، وهو رضا الله سبحانه ابتغاء مرضات الله الابتغاء : الطلب الشديد والرغبة القوية الصادقة ; ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا ، ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه ، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين التعبير بالمصدر الميمي وغيره ; والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعا قائما متحققا في الوجود ، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجردا ; فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول ، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجردا من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أو لا ، أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق ، أو في صورة الوجود المتحقق ; وعلى ذلك يكون معنى ابتغاء مرضات الله أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلبا موثقا رضا الله سبحانه حقيقة واقعة مؤكدة ، ويتصورون رضاه سبحانه حقيقة قائمة قد حلت بهم ، فيشتد طلبهم ، وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم .
وأولئك الذين باعوا أنفسهم لله ، وافتدوا الحق بأموالهم وأنفسهم ، هم حجة الله القائمة في عهد الظلم والظلمات ; وإذا كان الله سبحانه وتعالى يبتلي الجماعات بأهل الشر والطاغوت ، وحكم الظالمين ; فإنه يرسل في هذا البلاء أولئك الذين ندبوا أنفسهم للحق يدعون عليه ، ويجهرون به ، ويجاهدون في سبيل الله لرفع مناره ، وجعل كلمة الله هي العليا ; وعندئذ يكون معهم كل من يميل إلى الحق قلبه ، وبين هؤلاء قوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .
وبذلك يكون الناس أربع طوائف :
أولاها - أهل الشر الطاغون ، الظالمون .
[ ص: 648 ] وثانيتها - أهل العدل الذين يفتدون الحق بأنفسهم وأموالهم ، ويطرحون كل هوى لهم في سبيل رضا الله وإقامة الحق .
وثالثتها - أولئك الذين يتبعونهم وإن لم يبلغوا شأوهم ، ولم يفتدوا الحق مثل افتدائهم .
ورابعتها - أولئك الذين ينظرون ، ويتبعون الفريق الغالب في هذه المعركة التي تقوم بين الخير والشر ; وأولئك هم الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الإمعة ; وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن مسلكهم ، فقال : " " . لا تكونوا إمعة ; تقولون إن أحسن الناس أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم ، إن أحسن الناس تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا
والله رءوف بالعباد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتلك الكلمة السامية ; للإشارة إلى أمور ثلاثة وصلت إليها مداركنا :
أولها - ، فهدى الله أهل الخير الأقوياء إلى مدافعة أهل الشر الطغاة ، ولولا ذلك لعم الفساد ، وهلك العباد ، إن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل الخير القوي بجوار الشر المندفع ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
وثانيها - الإشارة إلى أن ; لأن ذلك من دواعي رأفته ورحمته بعباده ، والحق الذي يجيء بالمغالبة حق قوي عزيز يعض عليه بالنواجذ ; وفيه إعلان لغلبة المعاني الإنسانية على النواحي الحيوانية . الغلب للحق دائما
وثالثها - ; فإن الحكم العادل يكون رحمة بالناس ورفقا بهم ; والحاكم العادل ظل الله في أرضه ، ورحمته بخلقه ; وتسليط الظالمين من أمارة غضب العلي الحكيم . إن من رحمة الله بعباده ألا يمكن للظالمين ، وأن يمكن للعادلين
[ ص: 649 ] ثم في تذييل الآية ذلك التذييل فوق ما سبق دعوة إلى الرحمة بالناس والرفق بهم والحدب عليهم ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " " اللهم هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا . اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به
* * *