ثم بين سبحانه أنه معجز للأجيال كلها إنسهم وجنهم، فقال:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا الخطاب فيه إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بمكانة القرآن وأنه ليس كمثله كتاب قط، وأنه معجز يستطيع أن يتحدى به الإنس والجن في كل الأجيال، [ ص: 4450 ] ولو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لا يأتون ولو كان بعضهم يظاهر بعضهم الآخر، وفيه أيضا أن من الجن والإنس لا القرآن يعجز الجميع العرب وحدهم كما توهم بعض الناس أنه لا يعجز غيرهم، ولا يخاطب به غيرهم؛ لأنه ليس بلغتهم وأن حسبه أن يعجز عن الإتيان بمثله العرب.
لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
(اللام) هي الموطئة للقسم، والتي تدل على أن في الكلام قسما مطويا في القول، وجواب القسم لا يأتون، ولولا اللام لكان جواب الشرط؛ لأنه لا يجزم الجواب إذا كان فعل الشرط ماضيا، وقوله اجتمعت يتضمن معنى انقضت واجتمعت في صعيد واحد وأرادوا أن يأتوا بمثله أو كتاب مثله لا يأتون ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا أي لو تعاونوا جميعا وتظاهروا على أن يأتوا بمثله؛ وذلك لأنه معجز بذاته في ألفاظه وعباراته ونظمه ونسقه ونغمه، حتى إن كل جملة من جمله لها نغم وموسيقى منفردة، ولا يوجد في أية لغة من اللغات مثل هذا النغم الذي يسمع في عباراته ومعانيه، وكل ذي ذوق موسيقي يرى فيه من روائع النغم ما ليس في أي كلام بأي لغة، حتى إن كاتبا أوربيا كان يعلم العربية بعض العلم حكم بأنه لا يزال معجزا بتآخي عباراته، وموسيقى فواصله من غير أن تعتدي الألفاظ على المعاني، بل إنه يتآخى في أداء المعاني ألفاظه وعباراته وفواصله ونغماته، ولا تدري أيها أشد تأثيرا في نفسك، وفوق هذا كل شيء فيه معجز، فشرائعه إذا قيست بشرائع عصره كان معجزا، وعلمه من أخبار وتنبيهه إلى الكون معجز لأنه ينبه إلى أمور من شئون الكون لم تكن معلومة عند علماء الكون في عصره وغير ذلك مما أحاط به علم القرآن،