[ ص: 91 ]
الم
ابتدئت السورة بهذه الحروف التي ينطق بها ، فيقال : ألف لام ميم ، وكذلك ابتدئت عدة سور بهذه الحروف التي ينطق بها مفردة حرفا حرفا ، وهذه الأولى ، وقد أعقبت الحروف بذكر الكتاب وشرفه ، وجاءت سورة آل عمران مبتدأة بهذه الأحرف نفسها الم ، وعقبها ذكر جلال الله تعالى : الله لا إله إلا هو الحي القيوم .
ثم كانت سورة الأعراف مبتدأة بمثل هذه الأحرف وهي المص ، وذكر بعدها الكتاب ، وهو قوله تعالى : كتاب أنـزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه
وكانت سورة يونس مبتدأة بحروف مفردة ، وهي الر وذكر بعدها الكتاب وآياته فقال تعالى : تلك آيات الكتاب الحكيم .
وجاءت سورة هود مبتدأة أيضا بهذه الحروف الر ، وذكر بعدها الكتاب ، فقال تعالى بعدها : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ،
وسورة يوسف ابتدئت أيضا بهذه الحروف الر ، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى عقبها : تلك آيات الكتاب المبين .
وجاءت أيضا سورة الرعد مبتدأة بهذه الحروف المفردة المر ، وقد ذكر بعدها الكتاب الكريم فقال تعالى عقبها : تلك آيات الكتاب والذي أنـزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
وابتدئت سورة إبراهيم بهذه الأحرف المفردة فقال تعالى : الر ، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى بعدها : كتاب أنزلناه إليك [ ص: 92 ] لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد .
وجاءت سورة الحجر مبتدأة بحروف مفردة وهي الر ، وذكر بعدها الكتاب فقال تعالى عقبها : تلك آيات الكتاب وقرآن مبين .
وجاءت سورة مريم مبتدأة بخمسة حروف وهي كهيعص ، ولم يذكر بها (القرآن ) عقب هذه الحروف ، ولكن ذكرت برحمة الله تعالى على زكريا ، فقال تعالى : ذكر رحمت ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب وقد ذكر (الكتاب ) في عدة مواضع بعد ذلك في السورة ، فكان يأمر الله تعالى بذكره عند ذكر القصص عن أنبياء الله تعالى ، فإذا كان (الكتاب ) لم يذكر في الكتاب الكريم عقب هذه الحروف ، فقد تكرر ذكره تعالت كلماته في مواضع مختلفة بعد ذلك .
وجاءت سورة (طه ) وإذا لم نعتبر كلمة (طه ) ، اسما فإنها تكون حروفا مجردة ، وذكر بعدها القرآن الكريم في قوله تعالى : ما أنـزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنـزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا
وجاءت سورة الشعراء مبتدأة بحروف ثلاثة طسم ، وجاء عقب هذه الحروف ذكر القرآن تلك آيات الكتاب المبين ، وابتدئت سورة النمل بحرفين هما طس ، وجاء ذكر القرآن بعدها فقال تعالى : تلك آيات القرآن وكتاب مبين .
[ ص: 93 ] وابتدئت سورة القصص بثلاثة أحرف طسم ، وجاء بعدها ذكر القرآن الكريم ، فقال تعالى عقب الحروف : تلك آيات الكتاب المبين .
وجاءت سورة العنكبوت مبتدأة بهذه الحروف الم ، وجاء بعدها اختبار الناس وهو قوله تعالى : أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون .
وجاءت سورة الروم مبتدأة بالحروف الم ، ثم ذكر بعد ذلك انهزامهم ثم انتصارهم الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين .
وجاءت سورة لقمان مبتدأة بالحروف الم ، وذكر بعدها الكتاب : تلك آيات الكتاب الحكيم .
وجاءت سورة السجدة مبتدأة بهذه الحروف الم ، وعقبت بذكر الكتاب تنـزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين .
وابتدئت سورة يس بحرف الياء والسين يس ، وذكر بعد الحرفين القرآن الكريم ، وذلك إذا لم تعد اسما .
وجاءت سورة (ص ) مبتدأة بالحرف ص ، وجاء ذكر القرآن الكريم فقال تعالى عقب هذا الحرف : والقرآن ذي الذكر .
وابتدئت سورة غافر بحرفين حم ، ذكر بعدها القرآن فقال تعالى عقبها : تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم .
وابتدئت فصلت بالحرفين : حم ، وعقبت بقوله تعالى عن الكتاب : تنـزيل من الرحمن الرحيم .
[ ص: 94 ] وابتدئت سورة الشورى بخمسة أحرف ، وهي حم عسق ، وجاء بعدها ذكر لنزول القرآن فقال تعالى : كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم .
وابتدئت سورة الزخرف بـ (حم ) ، وعقب الله تعالى هذين الحرفين بقوله تعالى : والكتاب المبين .
وابتدأت سورة الدخان بحرفي حم ، ثم جاء بعد ذلك ذكر القرآن فقال تعالى عقبها : والكتاب المبين .
وابتدأت سورة الجاثية بحرفي حم ، وعقبها الله تعالى بتنزيل القرآن فقال تعالى : تنـزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم .
وابتدئت سورة الأحقاف بالحرفين حم ، وذكر الله تعالى بعدهما القرآن ، فقال تعالى : تنـزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم .
وابتدئت سورة (ق ) ، بحرف - وجاء بعده القسم بالكتاب والقرآن المجيد .
وابتدئت سورة القلم بحرف ن ، وجاء بعدها ذكر القلم فقال تعالى : والقلم وما يسطرون ، وفيه إشارة إلى الكتاب الكريم .
هذه هي السور التي ابتدئت بالحروف المفردة ، ومن هذا الإحصاء يتبين :
أولا : أن السور التي صدرت بهذه الأحرف سور مكية نزلت بمكة ماعدا ثلاث سور هي البقرة ، وآل عمران ، والرعد ، فإن هذه السور الثلاث مدنية ، بينما الباقي مكي نزلبمكة حيث كان أكثر التحدي بالقرآن الكريم ، وإن كان هناك تحد به في [ ص: 95 ] المدينة ; لأنه المعجزة الدائمة التي يتحدى بها المنكرون في كل الأحيان والعصور قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
ثانيا : أن السور التي صدرت بهذه الحروف ذكر الكتاب بعدها ، مما يدل على أن للكتاب الكريم صلة بالابتداء بهذه الحروف ، وثلاث سور فقط هي التي لم يأت ذكر للكتاب عقبها ، وهي سورة مريم ، فلم يذكر الكتاب عقب الحروف ، وإن جاء ذكره بعد ذلك في مناسبات أخرى ، وكرر ذكره بهذه المناسبات ، وسورة العنكبوت فإن ذكر القرآن لم يعقب الأحرف ، وكذلك سورة الروم ، وما عدا هذه السور الثلاث ذكر القرآن الكريم في أعقابها .
ثالثا : أن عدد الحروف التي ابتدئت بها السور أربعة عشر حرفا ، وهي نصف الحروف الهجائية ، وهي تشتمل على أنواع مخارج الحروف المختلفة ، وهذه الحروف هي الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والراء ، والسين ، والطاء ، والحاء ، والقاف ، والنون .
ولا يحفظها ويقرأها إلا من يعرف القراءة والكتابة ، فالأمي لا يعرفها وإن عرف بعضها ، لا يعرفها كلها ، وإلا كان قارئا كاتبا ; ولذلك هي في القرآن على لسان النبي الأمي من دلائل إعجازه .
قال الله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون .
وإنه بتتبع السور الكريمة التي صدرت بهذه الحروف التي قدسها الله سبحانه وتعالى بذكرها ، وإعقاب القرآن في أكثرها بها يدل على الارتباط الوثيق بينها وبين القرآن الكريم ; لأنه اشتمل عليها ، ولأنها تشير إلى مقامه وإعجازه ومنزلته في هذا [ ص: 96 ] الوجود الإنساني ، وإن كانت معانيه المحررة مستورة عنا ، وهي في علم الله تعالى المكنون ، ولكن لها إشارات توحي إلى معان عالية ، تليق بتصدرها لكثير من سور القرآن . هذا ما نشير إليه إجمالا ونعرض له ببعض التفصيل .
* * *
(الم ) روي عن أبي بكر رضي الله عنهما أنهما قالا إن هذه الحروف التي ابتدئت بها السور هي سر الله تعالى في الكتاب ، ولله تعالى في كل كتاب سر . وتبعهما في هذا القول وعلي عامر الشعبي ، وجماعة من المحدثين ، بل قاله أكثر علماء السلف ، وهي من المتشابه الذي اختص به علم الله تعالى ، وروي عن وسفيان الثوري عمر وعثمان أنهم قالوا رضي الله عنهم : الحروف المقطعة في أوائل السور من المكتوم الذي استأثر به علم الله تعالى . وروي عن وابن مسعود الربيع بن خيثم ، أنه قال : إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء ، وأطلعكم على ما شاء ، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه ، وأما الذي أطلعكم عليه ، فهو الذي تسألون عنه ، وتخبرون به ، وما بكل القرآن تعلمون ، وما بكل ما تعلمون تعملون .
وإن هذه المأثورات عن كبار الصحابة ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهي تدل على أن هذه الحروف من المتشابه الذي لا يعلم به أحد إلا الله تعالى ، وعلينا أن نكف عما لا نعلم ، عملا بقوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا .
ولكن العقل طلعة يحاول تعرف المجهول أو المكتوم ، وكلما كان الإبهام كان تعرف كشفه ، ولذلك حاول علماء أن يعرفوا سر وجود هذه الحروف وإن لم يعرفوا حقيقة المراد منها ، وقالوا في ذلك أقوالا أربعة ; ثلاثة منها متلاقية في صوابها وواحد حاول تفسيرها ، فأخطأ فيما قصد .
[ ص: 97 ] أولها : أن بعضهم حاول تفسيرها بأنها رموز للذات العلية ، أو أنها رموز لله ولآخرين ، فقال قائل إن (الم ) ترمز إلى أن الله يقول أنا الله أعلم ، فالألف : أنا ، واللام : الله ، والميم : أعلم ، وقالوا : (الم ) أنا الله أرى ، وقال بعضهم في (الم ) : إن الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد ، وقيل الألف مفتاح اسم الله ، واللام مفتاح لطيف ، والميم مفتاح مجيد ، وكل هذه التفسيرات ظنون ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، ولم يرد واحد منها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولو وردت عنه لقبلناها صاغرين ولخرجت من المتشابه إلى المحكم .
ثانيها : ليس تعرفا لمعانيها ، ولكنه تعرف لسر وجودها ، أو لبعضها ، وذلك بيان لإعجاز القرآن مع أنه مكون من حروفهم التي تتكون منها كلماتهم ، ومع ذلك يعجزون عن أن يأتوا بمثله في تأليف نغمه ، وسياق معانيه ، وتآلف ألفاظه وفواصله ، فهذا يدل على أنه من عند الله ويدل على عجزهم عن أن يأتوا بمثله .
وثالثها : وهو كسابقه يدل على بعض أسرار وجودها ، ولا يتعرض لذات معانيها ، وهي أنها تدل على نزول القرآن من عند الله تعالى ، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يأت به من عنده ، لأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فهو النبي الأمي ، والأمي ينطق بالكلمات ولا يعرف الحروف ، فمجيء الحروف على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، وهي حروف كثيرة ، هي نصف عدد الحروف الهجائية ، وهي متنوعة المخارج ، وتشمل المخارج كلها ، وإن لم تشتمل كل عددها ، إن هذا دليل على أنها من عند الله عالم الغيب والشهادة ، الذي علم بالقلم ، وعلم الإنسان ما لم يعلم .
رابعا : وهو كسابقيه فيه بيان سر وجود هذه الحروف ، وذلك أن العرب المشركين كانوا يحسون بأثر القرآن في نفوسهم إذا سمعوه ، حتى أنهم قد تفاهموا على ألا يسمعوه وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون .
فكانوا يحاولون ألا يسمعوا ، فكانت تلك الحروف الصوتية التي [ ص: 98 ] تبتدأ بها السور الكريمة إذا قرئت مرتلة مجودة تسترعي أسماعهم ، ويستغربون ، وقد يستنكرون ، وبينما هم في استغرابهم وعجبهم ، يهجم عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن ونغماته ، وجميل ألفاظه ، ورنة موسيقاه ، فيخضعون للسماع ، وينقضون ما أبرموا من قبل ، فهذه الحروف كانت ليستغربوا ويفتحوا أسماعهم ، ويسمعوا .
وإن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة فيها ، والله بكل شيء عليم . بيان لسر وجود هذه الحروف
* * *