nindex.php?page=treesubj&link=28867_29785_32238_34225_34226_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين nindex.php?page=treesubj&link=28735_28739_29692_30172_30179_34134_34296_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
* * *
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الإشارة هنا إلى الحروف
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم التي تتألف من كلمات الكتاب العزيز الحكيم ; ولذلك قيل إن
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم اسم للسورة ، ولكن نقول إن هذه الإشارة إلى الحروف باعتبارين :
أولهما : أن هذه هي الحروف الذي كون منها الكتاب المعجز الذي تحدى به الإنسانية كلها .
والثاني : أنها اسم للسورة التي افتتحت بها ، وذلك من قبيل إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء ، أو أن جزء القرآن قرآن يتحدى . ألم تر أن الله تعالى تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله .
[ ص: 99 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب والإشارة هنا للبعيد ، وموضوعها قريب ، لأن الحروف جاء بعدها فورا ذكر الكتاب فكان الظاهر أن تكون الإشارة بما يدل على القرب ، كـ (هذا ) الكتاب ، ولكن لأن (الم ) تدل على السورة التي هي جزء متكامل من الكتاب ، أو الكتاب نفسه ، وقد نزل من الروح الأقدس ، فنزل من العلا إلى النبي المرسل ، فكان ذلك إشعارا بالبعد بين الملكوت الأعلى وخلق الله سبحانه وتعالى ، أو يقال : إن الإشارة بالبعيد تنويه بذكره وعلو مقامه فإنه تكون الإشارة بالبعيد في هذا المقام ، وأي مقام يقارب كتاب الله تعالى ؟ ! فهو علي في ذاته ، ثقيل في ميزانه كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=5إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا .
وفي قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب لا ريب فيه ثلاثة وقوف :
أولها : الوقوف عند (الكتاب ) ، وتكون (ذلك ) مبتدأ ، والكتاب خبر ، ويكون فيه تعريف الطرفين الذي يدل على القصر ، أي ذلك وحده هو الجدير بأن يسمو ، فلا يعلو علوه كتاب ، ولا يناصي سمته مقروء سواه ، إذ هو تنزيل من رب العالمين ، وفيه علم بشرائع الله تعالى ويكون قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2لا ريب فيه جملة مستقلة على هذه القراءة ، وهي تأكيد لمعنى العلو والسمو فيه ، إذ إنه لا شك في حقائقه ، وهي بينة تهتدي إليها العقول ، ولا ترتاب فيها فهو حجة بصدقه في ذاته ، وإدراك العقول لحقائقه ، وهذا شرف ذاتي فيه ، وهو لا ريب في أنه من عند الله ، إذ تحدى المقاول من
قريش وفحول الكلام منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ، فكان ذلك شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي .
والثاني : الوقف عند (لا ريب ) ، ومؤداها مقارب من مؤدى القراءة السابقة تقريبا ، إذ المؤدى أن يكون المعنى : ذلك هو الكتاب بلا ريب ، ويكون قوله تعالى :
[ ص: 100 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2فيه هدى للمتقين جملة جديدة مستقلة وتكون لبيان كماله فوق أنه لا ريب فيه .
والثالث : الوقوف عند كلمة (فيه ) ، ويكون المعنى كالمعنى السابق ، ثم يكون قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين جملة مستقلة ، وهذه القراءات تتجه كلها إلى سمو القرآن وعلوه ، وأنه فوق طاقة البشر ، وفوق علم الناس ، إنه كتاب الله العلي الحكيم .
ومعنى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2لا ريب فيه أنه لا يعتريه الريب لكمال حقائقه ووضوح مقاصده ، والبراهين القاطعة المثبتة أنه من عند الله تعالى ، فلا مساغ لمرتاب أن يرتاب . وإذا كان قد وقع فيه إنكار ، فلأنهم جحدوا آيات الله تعالى ، واستيقنتها أنفسهم ، والنفي لوقوع الريب منه في ذاته ، ويضل ناس فيجحدون ولا يؤمنون ، ولا ينفي ذلك أنه لا مكان للريب ، ولا موضع له ، إذ هو ارتياب حيث اليقين ، وإنكار حيث يجب الإيمان ، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين الهدى مصدر على وزن فعل ، كالسرى ، والبكى ، ومعناه الدلالة على الطريق الموصل للغاية الذي لا اعوجاج فيه ، ولا تستعمل غالبا إلا للتوصيل إلى الخير ، بدليل مقابلتها بالضلالة في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، وبدليل نسبة الهدى إلى الله تعالى ، فقد قال تعالت كلماته :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=73قل إن الهدى هدى الله والمهتدي من انتفع بما وجد من هداية
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=108فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها
وإذا قيل : فإن الهداية إنما تكون للضالين ليسترشدوا ، ويسيروا في طريق الحق ، ويبتعدوا عن الغواية ، وما يدفع إليه من ضلالة كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=7ووجدك ضالا فهدى .
[ ص: 101 ] نقول في الإجابة على ذلك : إن المراد بالمتقين ليس من وصلوا إلى أقصى درجات الهداية إنما المراد من شارفوها وطلبوها وأرادوها ، وحاولوا الازدياد من العلم ، ولم تكن قلوبهم متحجرة ، مبلسة لا تسترشد ولا تهتدي ، وبيان ذلك أن الله تعالى خلق النفوس وسواها ، وألهمها فجورها وتقواها .
فمن النفوس من فطرها الله تعالى على الفطرة المستقيمة المدركة للحق في ذاته ، التي تتجه إلى الحق تبتغيه وتريده ، وتظل في حيرة حتى تجد المرشد من السماء برسول مبين يرشدها إلى صراط مستقيم ، كأولئك الحنيفيين الذين رفضوا عبادة الأوثان لأنها لا تنفع ولا تضر ، ولا يتبعها إلا الغاوون .
إن هذه نفوس متقية تبتغي الرشاد ، فتكون مصغية للحق عند الدعوة إليه متبعة للنور إذا أشرق ، وهذا ما نراه موضعا للتعبير بقوله تعالت كلماته :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين .
والمتقون مشتق من الوقاية ، يقال : وقاه الله تعالى ، ووقى نفسه السوء ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .
واتقى : افتعل ، من وقى ، فهي في أصلها : اوتقى ، ثم قلبت الواو تاء ، فأدغمت في تاء الافتعال ، فصارت اتقى ، ومنه أخذت التقى ، والتقاة ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=102اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
والمتقون مراتب في إدراكهم لتقوى الله تعالى ، وأعلاها : إدراكهم لمعنى الحق وخضوعهم لما يطلبه ، وإنهم بهذا يطيعونه ويستجيبون له ، ويلتزمونه ، وينطبق عليهم قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=26وألزمهم كلمة التقوى فإذا علا في نفوسهم طلب الحق والاستعداد له ، تركوا شر الأشرار مهتدين بهديه ، وتجنبوا الإساءة إلى غيرهم ، فإذا ساروا في مدارج الهداية والتقوى نزهوا أنفسهم عن كل ما يخالف الحق ، وصارت قلوبهم نورا مبصرا ، وكانوا أولياء الله تعالى ، وينطبق عليهم
[ ص: 102 ] قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=96ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ألا إن هؤلاء هم المتقون الذين ينتفعون بهداية الله ، وإن علم الله تعالى وهدايته قد مثله النبي - صلى الله عليه وسلم - بغيث ينزل من السماء فيجيء إلى أرض طيبة فتنبت النبات الطيب ، وينزل على أرض لا تنبت ، ولكن ينتقل منها إلى أخرى تنبت فيها النبات الطيب ، وهناك أرض هي قيعان لا تنبت ، ولا ينتقل منها إلى غيرها .
ولقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في تنسيق هذه الآيات
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين كلمات طيبة محققة مفادها أن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب جملة ثانية ، و
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2لا ريب فيه جملة ثالثة ، و
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين رابعة ، وقد أصاب بترتيبها من البلاغة ، وموجب حسن النظم ، حيث هي متناسقة هكذا من غير حرف نسق (أي عطف ) وذلك لمجيئها متآخية آخذة بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جرا إلى الثالثة ، والرابعة .
بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشار إلى أنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال ، فكان تقريرا لجهة التحدي وشدا من أعضائه ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة وتسجيلا بكماله ، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة . وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك ؟ قال : في حجة تتبختر اتضاحا ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا .
[ ص: 103 ] ثم أخبر عنه أنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا التنظيم السري ، من نكتة ذات جزالة ، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه ، وفي الثانية ، ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة : الحذف ووضع المصدر الذي هو موضع الوصف الذي هو هاد ، وإيراده منكرا ، والإيجاز في ذكر المتقين ، زادنا الله اطلاعا على أسرار كلامه ، وتبينا لنكت تنزيله وتوفيقا للعمل بما فيه .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3الذين يؤمنون بالغيب هذا هو الوصف الأول للمتقين الذين يتلقون هدى الله تعالى كما تتلقى الأرض الطيبة الغيث فتأتي بأطيب الثمرات . والإيمان : التصديق ، ويتعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف والإقرار والإذعان ، والخضوع ، ويتعدى باللام ويتضمن حينئذ معنى الاستسلام أو الاستجابة كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=17وما أنت بمؤمن لنا قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=83فما آمن لموسى ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن اليهود إذ يتآمرون فيقول بعضهم لبعض ،
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=73ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم
وأول وصف من أوصاف المتقين الذي يميزهم - وهو في غالب أحوالهم سبب لتقواهم -
nindex.php?page=treesubj&link=30179الإيمان بالغيب . والغيب : كل ما يغيب عن الشخص ، ويستتر ، ولقد فسره العلماء بما يتفق مع أن يكون وصفا للمتقين ، فقالوا أقوالا مختلفة في ألفاظها ، وتتلاقى في مضمونها أو المراد منها - فيما نعلم - كلها ، ففسروه بأن الغيب هو الله تعالى ; لأننا نؤمن به ولا نراه ، فالبرهان يوجب الإيمان به ، وهو لا يرى بالحس بل يرى بالقلب ، وفسروه بأنه القدر ، وفسروه بأنه الإيمان بالملائكة ،
[ ص: 104 ] وفسروه بالقرآن وما فيه من أخبار الملائكة واليوم الآخر ، والجنة ، والنار . وقال آخرون : الغيب كل ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما لا تهتدي العقول إليه من علامات الساعة والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة إلخ .
والحق أنه لا تعارض بين هذه الأقوال ، بل هي متلاقية في جملة معانيها .
وإنا نرى أن الإيمان ، بالغيب هو الإيمان بما وراء الحس من أمور غيبها الله تعالى عن عقولنا ، وبيان ذلك أن الناس قسمان : ضالون ومتقون . . فالضالون هم الذين لا يؤمنون إلا بالمادة ، ولا يعرفون غيرها ، وينكرون ما عداها ، ويقولون : إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، ولا يؤمنون بشيء وراء ذلك ، ويقول قائلهم : الطبيعة خلقتنا ، ونرد إليها ، فلا يؤمنون بإله ولا بروح إلا أن تكون عرضا من أعراض المادة ، وهؤلاء منهم الملاحدة ومنكرو الأديان .
والقسم الثاني : أمارتهم أنهم يؤمنون بالحس على أنه خاضع للغيب ، فهم لا يقصرون إيمانهم على ما يحسون وما يرون وما يبصرون ، بل يؤمنون بأن وراء المادة عالما كبيرا ، وأن مدبر الكون ومنشئه ، هو صاحب السلطان المطلق فيه ، فلله تعالى محيانا ومماتنا .
إن فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة هو الإيمان بالغيب ، فالمؤمن أول خلاله الإيمان بالغيب ، والزنديق لا يؤمن إلا بالمادة .
إن الإيمان بالغيب يجعل النفس دائما خاضعة متطامنة لا تستنكف عن عبادة الله تعالى ولا تستكبر ، ولقد كان ذلك لـ :
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=33من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ، وإذا كان الإيمان بالغيب يولد الخشية في النفس ، فذلك هو لب الإيمان كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=12إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير .
[ ص: 105 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون كانت الصفة الأولى للمتقين إيمانا بالغيب ، وما يكنه من مستورات عن المحسوسات ، تولد في النفس الخشية ، والإحساس بحاجة الجسم إلى الروح ، وبأن الروح فيما وراء المشاهد هي التي تسير هذا الوجود الإنساني ، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان إلا ليحاسب على ما قدم من شر أو خير ، وأنه سيرى ما اكتسب إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
بعد ذكر هذه الصفة النفسية ، ذكر صفتين أخريين تنبعثان من النفس ، ولكن لهما مظهر عملي ، وهما إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله سبحانه وتعالى .
والصلاة أصلها على وزن فعلة ، من صلى ، فأصل الصلاة صلوة ، فنقلت فتحة الواو إلى ما قبلها ، فصارت صلاة ، والصلاة كانت معروفة عند
العرب بأنها الدعاء . ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=103وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ، وإطلاقها على الصلوات الخمس من قيام وقراءة ، وركوع وسجود ، وتحيات - اصطلاح إسلامي .
ولقد فسر بعض العلماء الصلاة هنا بالدعاء ، أي الضراعة إلى الله تعالى ، والاتجاه الروحي إليه راجيا ما عنده مؤمنا به مستجيبا لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=55ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين .
ولكن الأكثرين - وهو الظاهر الذي يبدو من القول - على أن المراد بها الصلاة المكتوبة ، وإن الاتجاه الروحي بالضراعة والدعاء تتضمنه الصلاة المكتوبة ، وإن الصلاة قد فرضت في
مكة ، وصارت متعارفة ، كغيرها من الكلمات التي كان في معناها عموم ، ثم خصصها الإسلام .
وإقامة الصلاة الإتيان بها مستوية مقومة معدلة قد استوفت أركانها ظاهرا وباطنا ، فكانت مشتملة على الخشوع والحضور ، واستحضار عظمة الله تعالى في
[ ص: 106 ] كل لفظ يذكره ، ويعبد الله بهذه العبادة ، كأنه يرى الله سبحانه وتعالى ، ويتوالى ذلك في كل صلواته عامة النهار ، أو أطرافا من النهار وزلفا من الليل ، فإن كانت صلاته كذلك كان محسا برقابة الله تعالى ، ومن أحس برقابة الله لا يعصيه ; ولذلك قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=14492 " الصلاة عماد الدين " .
وبعض المفسرين يفسر إقامة الصلاة بالمداومة عليها من غير تقصير ، وبعضهم يفسرها بالمسارعة إليها عند النداء بها ، لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=9يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة وبعضهم يفسرها بالسعي إليها عند إقامة الجماعة فيها ، ولكن يرد ذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يمشوا إليها في سكينة وقار .
وإن التفسير الأول للإقامة هو الأوضح البين ، والمعاني الأخرى تدخل في ضمنه ، أو تقتضيها .
وبعد أن بين الله تعالى الوصف الذي يترتب على التقوى ، والإيمان بالغيب ، ذكر وصفا آخر عمليا ونفسيا ، فكل ما يذكره الإسلام من تكليفات ، وصفات للمؤمن ، لا ينظر فيها إلى ناحية العمل فقط ، بل ينظر فيها إلى ناحية العمل والباعث عليه ، والنية التي هي طهارة النفس ; ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=650001إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " .
الوصف العملي النفسي ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم ينفقون وفي هذا الوصف بيان أن الخير الذي يكون بالصلاة في الضراعة إليه
[ ص: 107 ] سبحانه وتعالى ينعطف على التقي نفعا للناس يقصد التقرب به إليه سبحانه وتعالى ، فهو يتقرب إلى الله تعالى بذكره الدائم ، وضراعته القائمة ، ويتقرب إلى الله تعالى بالإنفاق على خلقه ، ومد يد المعونة لغيره ، وسد حاجتهم ورفع فاقتهم لرضا الله ، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى .
والرزق هو : العطاء ، وهو من رزق يرزق رزقا ، وهو بمعنى اسم المفعول كـ " طحن " بمعنى مطحون ، و " رعي " بمعنى مرعي ، وذبح بمعنى مذبوح كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=107وفديناه بذبح عظيم .
والمرزوق ما ينعم الله تعالى به على الإنسان من متاع الحياة الدنيا ، من حيوان ونقود ، ومطاعم ومساكن ، والإنفاق إعطاؤها في كل سبل الخير ، وتشمل بذلك الزكوات ، والإنفاق على من يعولهم ، والإنفاق على نفسه ليقوى على الحياة ، ويقوم بما يجب عليه من طاعات ، ومعاونة للضعفاء بقوته ، وليقوى على الجهاد في سبيل رفع الحق وخفض الباطل ، وإمداد جند الله تعالى بما يحتاجون إليه من عتاد وأسباب القوة كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
والإنفاق كالإنفاد ، بيد أن الإنفاد يرمي إلى إنهاء المال ، وألا يبقى منه شيء ، والإنفاق يبقي . وقد خص بعض العلماء الرزق بأنه خاص بالحلال ، فإن الله تعالى لا يرزق إلا بالحلال ، والحق أن الله تعالى يفيض على ابن
آدم بكل ما يقيم به أوده ، ويعين به غيره ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها وابن
آدم هو الذي يجعل منها الحلال والحرام ، فإن كسبه كسبا طيبا لا خبث فيه فهو حلال ، وإن كسبه من غير الحلال ، أو أنفقه فيما حرم الله تعالى ، فهو الذي أوجد فيه الحلال ، وفي الحلال الثواب ، وفي الحرام العقاب . ولقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=59قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون .
[ ص: 108 ] والله تعالى يعد الرزق نعمة ، وإذا أنفق في الحلال وكسب من الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى ، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص . ويروى
nindex.php?page=hadith&LINKID=679116أن رجلا يكسب من الغناء والضرب على الدف فقال : يا رسول الله أراني لا أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي بالغناء في غير فاحشة ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة ، كذبت أي عدو الله ، والله لقد رزقك الله تعالى حلالا طيبا ، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " .
وفي العبارة السامية :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم ينفقون إشارتان بلاغيتان :
إحداهما : تقديم
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم على
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ينفقون وفي ذلك بيان أنهم لا ينفقون من كسب خالص لهم بل إنهم ينفقون من رزق الله تعالى ، فهو وحده الرزاق إن شاء أعطى ، وإن شاء منع ، ولست أيها المنفق ترزق نفسك إنما يرزقك الله وحده ، فأنت تعطي من عنده ، وتجود على نفسك وعلى عباده من عنده ، فالتقديم للقصر أولا ، وللاهتمام بالإنفاق ثانيا .
الثانية : أن الإنفاق لا يكون بكل ما رزق الله تعالى بل يكون ببعضه وإن كان الكثير فـ " من " في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم ينفقون للتبعيض ; أي : ينفقون بعض ما أعطاهم الله ، فلا يكونون كالمبذرين ، وإن المبذرين إخوان الشياطين ، والإنفاق في سبيل الله تعالى لا يستكثر فيه الكثير ، فكما قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه : إنفاق ألف في بر لا سرف ، وإنفاق درهم في غير بر سرف . وإنما موضع الإسراف أو الزيادة في الإنفاق على نفسه ، والله تعالى عليم خبير .
nindex.php?page=treesubj&link=28867_29785_32238_34225_34226_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ nindex.php?page=treesubj&link=28735_28739_29692_30172_30179_34134_34296_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
* * *
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الْإِشَارَةُ هُنَا إِلَى الْحُرُوفِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْ كَلِمَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم اسْمٌ لِلسُّورَةِ ، وَلَكِنْ نَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ إِلَى الْحُرُوفِ بِاعْتِبَارَيْنِ :
أَوَّلُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْحُرُوفُ الَّذِي كُوِّنَ مِنْهَا الْكِتَابُ الْمُعْجِزُ الَّذِي تَحَدَّى بِهِ الْإِنْسَانِيَّةَ كُلَّهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا اسْمٌ لِلسُّورَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا ، وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ ، أَوْ أَنَّ جُزْءَ الْقُرْآنِ قُرْآنٌ يَتَحَدَّى . أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .
[ ص: 99 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالْإِشَارَةُ هُنَا لِلْبَعِيدِ ، وَمَوْضُوعُهَا قَرِيبٌ ، لِأَنَّ الْحُرُوفَ جَاءَ بَعْدَهَا فَوْرًا ذِكْرُ الْكِتَابِ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ ، كَـ (هَذَا ) الْكِتَابُ ، وَلَكِنْ لِأَنَّ (الم ) تَدُلُّ عَلَى السُّورَةِ الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مُتَكَامِلٌ مِنَ الْكِتَابِ ، أَوِ الْكِتَابِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ نَزَلَ مِنَ الرُّوحِ الْأَقْدَسِ ، فَنَزَلَ مِنَ الْعُلَا إِلَى النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ ، فَكَانَ ذَلِكَ إِشْعَارًا بِالْبُعْدِ بَيْنَ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى وَخَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، أَوْ يُقَالُ : إِنَّ الْإِشَارَةَ بِالْبَعِيدِ تَنْوِيهٌ بِذِكْرِهِ وَعُلُوِّ مَقَامِهِ فَإِنَّهُ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِالْبَعِيدِ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَأَيُّ مَقَامٍ يُقَارِبُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى ؟ ! فَهُوَ عَلِيٌّ فِي ذَاتِهِ ، ثَقِيلٌ فِي مِيزَانِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=5إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ثَلَاثَةُ وُقُوفٍ :
أَوَّلُهَا : الْوُقُوفُ عِنْدَ (الْكِتَابُ ) ، وَتَكُونُ (ذَلِكَ ) مُبْتَدَأً ، وَالْكِتَابُ خَبَرٌ ، وَيَكُونُ فِيهِ تَعْرِيفُ الطَّرَفَيْنِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ ، أَيْ ذَلِكَ وَحْدَهُ هُوَ الْجَدِيرُ بِأَنْ يَسْمُوَ ، فَلَا يَعْلُو عُلُوَّهُ كِتَابٌ ، وَلَا يُنَاصِي سَمْتَهُ مَقْرُوءٌ سِوَاهُ ، إِذْ هُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَفِيهِ عِلْمٌ بِشَرَائِعِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2لا رَيْبَ فِيهِ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ، وَهِيَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالسُّمُوِّ فِيهِ ، إِذْ إِنَّهُ لَا شَكَّ فِي حَقَائِقِهِ ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ تَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعُقُولُ ، وَلَا تَرْتَابُ فِيهَا فَهُوَ حَجَّةٌ بِصِدْقِهِ فِي ذَاتِهِ ، وَإِدْرَاكُ الْعُقُولِ لِحَقَائِقِهِ ، وَهَذَا شَرَفٌ ذَاتِيٌّ فِيهِ ، وَهُوَ لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، إِذْ تَحَدَّى الْمَقَاوِلَ مِنْ
قُرَيْشٍ وَفُحُولَ الْكَلَامِ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا ، فَكَانَ ذَلِكَ شَرَفًا إِضَافِيًّا فَوْقَ شَرَفِهِ الذَّاتِيِّ .
وَالثَّانِي : الْوَقْفُ عِنْدَ (لَا رَيْبَ ) ، وَمُؤَدَّاهَا مُقَارِبٌ مِنْ مُؤَدَّى الْقِرَاءَةِ السَّابِقَةِ تَقْرِيبًا ، إِذِ الْمُؤَدَّى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : ذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ بِلَا رَيْبٍ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
[ ص: 100 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ جُمْلَةً جَدِيدَةً مُسْتَقِلَّةً وَتَكُونُ لِبَيَانِ كَمَالِهِ فَوْقَ أَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ .
وَالثَّالِثُ : الْوُقُوفُ عِنْدَ كَلِمَةِ (فِيهِ ) ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى كَالْمَعْنَى السَّابِقِ ، ثُمَّ يَكُونُ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ تَتَّجِهُ كُلُّهَا إِلَى سُمُوِّ الْقُرْآنِ وَعُلُوِّهِ ، وَأَنَّهُ فَوْقَ طَاقَةِ الْبَشَرِ ، وَفَوْقَ عِلْمِ النَّاسِ ، إِنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ .
وَمَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2لا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَعْتَرِيهِ الرَّيْبُ لِكَمَالِ حَقَائِقِهِ وَوُضُوحِ مَقَاصِدِهِ ، وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ الْمُثْبِتَةِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا مَسَاغَ لِمُرْتَابٍ أَنْ يَرْتَابَ . وَإِذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ فِيهِ إِنْكَارٌ ، فَلِأَنَّهُمْ جَحَدُوا آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ، وَالنَّفْيُ لِوُقُوعِ الرَّيْبِ مِنْهُ فِي ذَاتِهِ ، وَيَضِلُّ نَاسٌ فَيَجْحَدُونَ وَلَا يُؤْمِنُونَ ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا مَكَانَ لِلرَّيْبِ ، وَلَا مَوْضِعَ لَهُ ، إِذْ هُوَ ارْتِيَابٌ حَيْثُ الْيَقِينُ ، وَإِنْكَارٌ حَيْثُ يَجِبُ الْإِيمَانُ ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الْهُدَى مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فُعَلٍ ، كَالسُّرَى ، وَالْبُكَى ، وَمَعْنَاهُ الدَّلَالَةُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ لِلْغَايَةِ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إِلَّا لِلتَّوْصِيلِ إِلَى الْخَيْرِ ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالضَّلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ، وَبِدَلِيلِ نِسْبَةِ الْهُدَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَتْ كَلِمَاتُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=73قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَالْمُهْتَدِي مَنِ انْتَفَعَ بِمَا وَجَدَ مِنْ هِدَايَةٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=108فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
وَإِذَا قِيلَ : فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إِنَّمَا تَكُونُ لِلضَّالِّينَ لِيَسْتَرْشِدُوا ، وَيَسِيرُوا فِي طَرِيقِ الْحَقِّ ، وَيَبْتَعِدُوا عَنِ الْغَوَايَةِ ، وَمَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ ضَلَالَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=7وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى .
[ ص: 101 ] نَقُولُ فِي الْإِجَابَةِ عَلَى ذَلِكَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَّقِينَ لَيْسَ مَنْ وَصَلُوا إِلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْهِدَايَةِ إِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ شَارَفُوهَا وَطَلَبُوهَا وَأَرَادُوهَا ، وَحَاوَلُوا الِازْدِيَادَ مِنَ الْعِلْمِ ، وَلَمْ تَكُنْ قُلُوبُهُمْ مُتَحَجِّرَةً ، مُبْلِسَةً لَا تَسْتَرْشِدُ وَلَا تَهْتَدِي ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ النُّفُوسَ وَسَوَّاهَا ، وَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا .
فَمِنَ النُّفُوسِ مَنْ فَطَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْمُدْرِكَةِ لِلْحَقِّ فِي ذَاتِهِ ، الَّتِي تَتَّجِهُ إِلَى الْحَقِّ تَبْتَغِيهِ وَتُرِيدُهُ ، وَتَظَلُّ فِي حَيْرَةٍ حَتَّى تَجِدَ الْمُرْشِدَ مِنَ السَّمَاءِ بِرَسُولٍ مُبِينٍ يُرْشِدُهَا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، كَأُولَئِكَ الْحَنِيفِيِّينَ الَّذِينَ رَفَضُوا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ ، وَلَا يَتَّبِعُهَا إِلَّا الْغَاوُونَ .
إِنَّ هَذِهِ نُفُوسٌ مُتَّقِيَةٌ تَبْتَغِي الرَّشَادَ ، فَتَكُونُ مُصْغِيَةً لِلْحَقِّ عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ مُتْبِعَةً لِلنُّورِ إِذَا أَشْرَقَ ، وَهَذَا مَا نَرَاهُ مَوْضِعًا لِلتَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَتْ كَلِمَاتُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .
وَالْمُتَّقُونَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوِقَايَةِ ، يُقَالُ : وَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَوَقَى نَفْسَهُ السُّوءَ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
وَاتَّقَى : افْتَعَلَ ، مِنْ وَقَى ، فَهِيَ فِي أَصْلِهَا : اوْتَقَى ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً ، فَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ ، فَصَارَتِ اتَّقَى ، وَمِنْهُ أَخَذْتُ التُّقَى ، وَالتُّقَاةَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=102اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
وَالْمُتَّقُونَ مَرَاتِبُ فِي إِدْرَاكِهِمْ لِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَعْلَاهَا : إِدْرَاكُهُمْ لِمَعْنَى الْحَقِّ وَخُضُوعُهُمْ لِمَا يَطْلُبُهُ ، وَإِنَّهُمْ بِهَذَا يُطِيعُونَهُ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ ، وَيَلْتَزِمُونَهُ ، وَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=26وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى فَإِذَا عَلَا فِي نُفُوسِهِمْ طَلَبُ الْحَقِّ وَالِاسْتِعْدَادُ لَهُ ، تَرَكُوا شَرَّ الْأَشْرَارِ مُهْتَدِينَ بِهَدْيِهِ ، وَتَجَنَّبُوا الْإِسَاءَةَ إِلَى غَيْرِهِمْ ، فَإِذَا سَارُوا فِي مَدَارِجِ الْهِدَايَةِ وَالتَّقْوَى نَزَّهُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ ، وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ نُورًا مُبْصِرًا ، وَكَانُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ
[ ص: 102 ] قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=96وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَلَا إِنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِدَايَةِ اللَّهِ ، وَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَهِدَايَتَهُ قَدْ مَثَّلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْثٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَيَجِيءُ إِلَى أَرْضٍ طَيِّبَةٍ فَتُنْبِتُ النَّبَاتَ الطَّيِّبَ ، وَيَنْزِلُ عَلَى أَرْضٍ لَا تُنْبِتُ ، وَلَكِنْ يَنْتَقِلُ مِنْهَا إِلَى أُخْرَى تُنْبِتُ فِيهَا النَّبَاتَ الطَّيِّبَ ، وَهُنَاكَ أَرْضٌ هِيَ قِيعَانٌ لَا تُنْبِتُ ، وَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا .
وَلَقَدْ ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَنْسِيقِ هَذِهِ الْآيَاتِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ كَلِمَاتٍ طَيِّبَةً مُحَقِّقَةً مَفَادُهَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم جُمْلَةٌ بِرَأْسِهَا أَوْ طَائِفَةٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ ، وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2لا رَيْبَ فِيهِ جُمْلَةٌ ثَالِثَةٌ ، وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ رَابِعَةٌ ، وَقَدْ أَصَابَ بِتَرْتِيبِهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ ، وَمُوجَبِ حُسْنِ النَّظْمِ ، حَيْثُ هِيَ مُتَنَاسِقَةٌ هَكَذَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ نَسَقٍ (أَيْ عَطْفٍ ) وَذَلِكَ لِمَجِيئِهَا مُتَآخِيَةً آخِذَةً بَعْضَهَا بِعُنُقِ بَعْضٍ ، فَالثَّانِيَةُ مُتَّحِدَةٌ بِالْأُولَى مُعْتَنِقَةٌ لَهَا ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى الثَّالِثَةِ ، وَالرَّابِعَةِ .
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ نَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ الْكَلَامُ الْمُتَحَدَّى بِهِ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ الْكِتَابُ الْمَنْعُوتُ بِغَايَةِ الْكَمَالِ ، فَكَانَ تَقْرِيرًا لِجِهَةِ التَّحَدِّي وَشَدًّا مِنْ أَعْضَائِهِ ، ثُمَّ نَفَى عَنْهُ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِهِ طَرَفٌ مِنَ الرَّيْبِ ، فَكَانَ شَهَادَةً وَتَسْجِيلًا بِكَمَالِهِ ، لِأَنَّهُ لَا كَمَالَ أَكْمَلَ مِمَّا لِلْحَقِّ وَالْيَقِينِ ، وَلَا نَقْصَ أَنْقَصَ مِمَّا لِلْبَاطِلِ وَالشُّبْهَةِ . وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ : فِيمَ لَذَّتُكَ ؟ قَالَ : فِي حُجَّةٍ تَتَبَخْتَرُ اتِّضَاحًا ، وَفِي شُبْهَةٍ تَتَضَاءَلُ افْتِضَاحًا .
[ ص: 103 ] ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، فَقَرَّرَ بِذَلِكَ كَوْنَهُ يَقِينًا لَا يَحُومُ الشَّكُّ حَوْلَهُ وَحَقًّا لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، ثُمَّ لَمْ تَخْلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَرْبَعِ بَعْدُ أَنْ رُتِّبَتْ هَذَا التَّرْتِيبُ الْأَنِيقُ ، وَنُظِّمَتْ هَذَا التَّنْظِيمُ السَّرِيُّ ، مِنْ نُكْتَةٍ ذَاتِ جَزَالَةٍ ، فَفِي الْأُولَى الْحَذْفُ وَالرَّمْزُ إِلَى الْغَرَضِ بِأَلْطَفِ وَجْهٍ وَأَرْشَقِهِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ ، مَا فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْفَخَامَةِ ، وَفِي الثَّالِثَةِ مَا فِي تَقْدِيمِ الرَّيْبِ عَلَى الظَّرْفِ ، وَفِي الرَّابِعَةِ : الْحَذْفُ وَوَضْعُ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ هَادٍ ، وَإِيرَادُهُ مُنَكَّرًا ، وَالْإِيجَازُ فِي ذِكْرِ الْمُتَّقِينَ ، زَادَنَا اللَّهُ اطِّلَاعًا عَلَى أَسْرَارِ كَلَامِهِ ، وَتَبَيُّنًا لِنُكَتِ تَنْزِيلِهِ وَتَوْفِيقًا لِلْعَمَلِ بِمَا فِيهِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هَذَا هُوَ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَ هُدَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَتَلَقَّى الْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ الْغَيْثَ فَتَأْتِي بِأَطْيَبِ الثَّمَرَاتِ . وَالْإِيمَانُ : التَّصْدِيقُ ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِذْعَانِ ، وَالْخُضُوعِ ، وَيَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَيَتَضَمَّنُ حِينَئِذٍ مَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ أَوِ الِاسْتِجَابَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=17وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=83فَمَا آمَنَ لِمُوسَى وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ إِذْ يَتَآمَرُونَ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=73وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ
وَأَوَّلُ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ الَّذِي يُمَيِّزُهُمْ - وَهُوَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ سَبَبٌ لِتَقْوَاهُمْ -
nindex.php?page=treesubj&link=30179الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ . وَالْغَيْبُ : كُلُّ مَا يَغِيبُ عَنِ الشَّخْصِ ، وَيَسْتَتِرُ ، وَلَقَدْ فَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلْمُتَّقِينَ ، فَقَالُوا أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً فِي أَلْفَاظِهَا ، وَتَتَلَاقَى فِي مَضْمُونِهَا أَوِ الْمُرَادُ مِنْهَا - فِيمَا نَعْلَمُ - كُلُّهَا ، فَفَسَّرُوهُ بِأَنَّ الْغَيْبَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَرَاهُ ، فَالْبُرْهَانُ يُوجِبُ الْإِيمَانَ بِهِ ، وَهُوَ لَا يُرَى بِالْحِسِّ بَلْ يُرَى بِالْقَلْبِ ، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ الْقَدَرُ ، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ ،
[ ص: 104 ] وَفَسَّرُوهُ بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْمَلَائِكَةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَالْجَنَّةِ ، وَالنَّارِ . وَقَالَ آخَرُونَ : الْغَيْبُ كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَيْهِ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْجَنَّةِ إِلَخْ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ ، بَلْ هِيَ مُتَلَاقِيَةٌ فِي جُمْلَةِ مَعَانِيهَا .
وَإِنَّا نَرَى أَنَّ الْإِيمَانَ ، بِالْغَيْبِ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا وَرَاءَ الْحِسِّ مِنْ أُمُورٍ غَيَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عُقُولِنَا ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ : ضَالُّونَ وَمُتَّقُونَ . . فَالضَّالُّونَ هُمُ الَّذِينَ لَا يَؤْمِنُونَ إِلَّا بِالْمَادَّةِ ، وَلَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا ، وَيُنْكِرُونَ مَا عَدَاهَا ، وَيَقُولُونَ : إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ وَرَاءَ ذَلِكَ ، وَيَقُولُ قَائِلُهُمُ : الطَّبِيعَةُ خَلَقَتْنَا ، وَنُرَدُّ إِلَيْهَا ، فَلَا يُؤْمِنُونَ بِإِلَهٍ وَلَا بِرُوحٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِ الْمَادَّةِ ، وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمُ الْمَلَاحِدَةُ وَمُنْكِرُو الْأَدْيَانِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَمَارَتُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْحِسِّ عَلَى أَنَّهُ خَاضِعٌ لِلْغَيْبِ ، فَهُمْ لَا يُقْصِرُونَ إِيمَانَهُمْ عَلَى مَا يُحِسُّونَ وَمَا يَرَوْنَ وَمَا يُبْصِرُونَ ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ وَرَاءَ الْمَادَّةِ عَالَمًا كَبِيرًا ، وَأَنَّ مُدَبِّرَ الْكَوْنِ وَمُنْشِئَهُ ، هُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْمُطْلَقِ فِيهِ ، فَلِلَّهِ تَعَالَى مَحْيَانَا وَمَمَاتُنَا .
إِنَّ فَيْصَلَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالزَّنْدَقَةِ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ ، فَالْمُؤْمِنُ أَوَّلُ خِلَالِهِ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ ، وَالزِّنْدِيقُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِالْمَادَّةِ .
إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ يَجْعَلُ النَّفْسَ دَائِمًا خَاضِعَةً مُتَطَامِنَةً لَا تَسْتَنْكِفُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَسْتَكْبِرُ ، وَلَقَدْ كَانَ ذَلِكَ لِـ :
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=33مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ، وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ يُوَلِّدُ الْخَشْيَةَ فِي النَّفْسِ ، فَذَلِكَ هُوَ لُبُّ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=12إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ .
[ ص: 105 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ كَانَتِ الصِّفَةُ الْأُولَى لِلْمُتَّقِينَ إِيمَانًا بِالْغَيْبِ ، وَمَا يُكِنُّهُ مِنْ مَسْتُورَاتٍ عَنِ الْمَحْسُوسَاتِ ، تُوَلِّدُ فِي النَّفْسِ الْخَشْيَةَ ، وَالْإِحْسَاسَ بِحَاجَةِ الْجِسْمِ إِلَى الرُّوحِ ، وَبِأَنَّ الرُّوحَ فِيمَا وَرَاءَ الْمَشَاهَدِ هِيَ الَّتِي تُسَيِّرُ هَذَا الْوُجُودَ الْإِنْسَانِيَّ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ إِلَّا لِيُحَاسَبَ عَلَى مَا قَدَّمَ مِنْ شَرٍّ أَوْ خَيْرٍ ، وَأَنَّهُ سَيَرَى مَا اكْتَسَبَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ .
بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ النَّفْسِيَّةِ ، ذَكَرَ صِفَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ تَنْبَعِثَانِ مِنَ النَّفْسِ ، وَلَكِنْ لَهُمَا مَظْهَرٌ عَمَلِيٌّ ، وَهُمَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَالصَّلَاةُ أَصْلُهَا عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ ، مِنْ صَلَّى ، فَأَصْلُ الصَّلَاةِ صَلْوَةٌ ، فَنُقِلَتْ فَتْحَةُ الْوَاوِ إِلَى مَا قَبْلَهَا ، فَصَارَتْ صَلَاةً ، وَالصَّلَاةُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ
الْعَرَبِ بِأَنَّهَا الدُّعَاءُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=103وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ قِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ ، وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ ، وَتَحِيَّاتٍ - اصْطِلَاحٌ إِسْلَامِيٌّ .
وَلَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الصَّلَاةَ هُنَا بِالدُّعَاءِ ، أَيِ الضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالِاتِّجَاهِ الرُّوحِيِّ إِلَيْهِ رَاجِيًا مَا عِنْدَهُ مُؤْمِنًا بِهِ مُسْتَجِيبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=55ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .
وَلَكِنَّ الْأَكْثَرِينَ - وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَبْدُو مِنَ الْقَوْلِ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ ، وَإِنَّ الِاتِّجَاهَ الرُّوحِيَّ بِالضَّرَاعَةِ وَالدُّعَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ قَدْ فُرِضَتْ فِي
مَكَّةَ ، وَصَارَتْ مُتَعَارَفَةً ، كَغَيْرِهَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي كَانَ فِي مَعْنَاهَا عُمُومٌ ، ثُمَّ خَصَّصَهَا الْإِسْلَامُ .
وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْإِتْيَانُ بِهَا مُسْتَوِيَةً مُقَوَّمَةً مُعَدَّلَةً قَدِ اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، فَكَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ ، وَاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي
[ ص: 106 ] كُلِّ لَفْظٍ يَذْكُرُهُ ، وَيَعْبُدُ اللَّهَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ ، كَأَنَّهُ يَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَيَتَوَالَى ذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَوَاتِهِ عَامَّةَ النَّهَارِ ، أَوْ أَطْرَافًا مِنَ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ كَذَلِكَ كَانَ مُحِسًّا بِرَقَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَنْ أَحَسَّ بِرَقَابَةِ اللَّهِ لَا يَعْصِيهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=14492 " الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ " .
وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يُفَسِّرُ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ ، وَبَعْضُهُمْ يُفَسِّرُهَا بِالْمُسَارَعَةِ إِلَيْهَا عِنْدَ النِّدَاءِ بِهَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=9يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَبَعْضُهُمْ يُفَسِّرُهَا بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا عِنْدَ إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا ، وَلَكِنْ يَرُدُّ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِأَنْ يَمْشُوا إِلَيْهَا فِي سَكِينَةٍ وَقَارٍ .
وَإِنَّ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ لِلْإِقَامَةِ هُوَ الْأَوْضَحُ الْبَيِّنُ ، وَالْمَعَانِي الْأُخْرَى تَدْخُلُ فِي ضِمْنِهِ ، أَوْ تَقْتَضِيهَا .
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَصْفَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّقْوَى ، وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ ، ذَكَرَ وَصْفًا آخَرَ عَمَلِيًّا وَنَفْسِيًّا ، فَكُلُّ مَا يَذْكُرُهُ الْإِسْلَامُ مِنْ تَكْلِيفَاتٍ ، وَصِفَاتٍ لِلْمُؤْمِنِ ، لَا يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى نَاحِيَةِ الْعَمَلِ فَقَطْ ، بَلْ يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى نَاحِيَةِ الْعَمَلِ وَالْبَاعِثِ عَلَيْهِ ، وَالنِّيَّةِ الَّتِي هِيَ طَهَارَةُ النَّفْسِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=650001إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " .
الْوَصْفُ الْعَمَلِيُّ النَّفْسِيُّ مَا عَبَّرَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَفِي هَذَا الْوَصْفِ بَيَانُ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي يَكُونُ بِالصَّلَاةِ فِي الضَّرَاعَةِ إِلَيْهِ
[ ص: 107 ] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَنْعَطِفُ عَلَى التَّقِيِّ نَفْعًا لِلنَّاسِ يَقْصِدُ التَّقَرُّبَ بِهِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَهُوَ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِهِ الدَّائِمِ ، وَضَرَاعَتِهِ الْقَائِمَةِ ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَمَدِّ يَدِ الْمَعُونَةِ لِغَيْرِهِ ، وَسَدِّ حَاجَتِهِمْ وَرَفْعِ فَاقَتِهِمْ لِرِضَا اللَّهِ ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَالرِّزْقُ هُوَ : الْعَطَاءُ ، وَهُوَ مِنْ رَزَقَ يَرْزُقُ رِزْقًا ، وَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَـ " طِحْنٍ " بِمَعْنَى مَطْحُونٍ ، وَ " رِعْيٍ " بِمَعْنَى مَرْعِيٍّ ، وَذِبْحٍ بِمَعْنَى مَذْبُوحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=107وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ .
وَالْمَرْزُوقُ مَا يُنْعِمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، مِنْ حَيَوَانٍ وَنُقُودٍ ، وَمَطَاعِمَ وَمَسَاكِنَ ، وَالْإِنْفَاقُ إِعْطَاؤُهَا فِي كُلِّ سُبُلِ الْخَيْرِ ، وَتَشْمَلُ بِذَلِكَ الزِّكْوَاتِ ، وَالْإِنْفَاقَ عَلَى مَنْ يَعُولُهُمْ ، وَالْإِنْفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ لِيَقْوَى عَلَى الْحَيَاةِ ، وَيَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَاتٍ ، وَمُعَاوَنَةٍ لِلضُّعَفَاءِ بِقُوَّتِهِ ، وَلِيَقْوَى عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ رَفْعِ الْحَقِّ وَخَفْضِ الْبَاطِلِ ، وَإِمْدَادِ جُنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ عَتَادٍ وَأَسْبَابِ الْقُوَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَالْإِنْفَاقُ كَالْإِنْفَادِ ، بَيْدَ أَنَّ الْإِنْفَادَ يَرْمِي إِلَى إِنْهَاءِ الْمَالِ ، وَأَلَّا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ ، وَالْإِنْفَاقُ يُبْقِي . وَقَدْ خَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الرِّزْقَ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالْحَلَالِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرْزُقُ إِلَّا بِالْحَلَالِ ، وَالْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفِيضُ عَلَى ابْنِ
آدَمَ بِكُلِّ مَا يُقِيمُ بِهِ أَوَدَهُ ، وَيُعِينُ بِهِ غَيْرَهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا وَابْنُ
آدَمَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ مِنْهَا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ ، فَإِنْ كَسَبَهُ كَسْبًا طَيِّبًا لَا خُبْثَ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ ، وَإِنْ كَسَبَهُ مِنْ غَيْرِ الْحَلَالِ ، أَوْ أَنْفَقَهُ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَهُوَ الَّذِي أَوْجَدَ فِيهِ الْحَلَالَ ، وَفِي الْحَلَالِ الثَّوَابُ ، وَفِي الْحَرَامِ الْعِقَابُ . وَلَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=59قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ .
[ ص: 108 ] وَاللَّهُ تَعَالَى يَعُدُّ الرِّزْقَ نِعْمَةً ، وَإِذَا أُنْفِقَ فِي الْحَلَالِ وَكُسِبَ مِنَ الْحَلَالِ كَانَ مِنَ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِكَسْبٍ يَكُونُ طَرِيقُهُ لَيْسَ بِحَلَالٍ خَالِصٍ . وَيُرْوَى
nindex.php?page=hadith&LINKID=679116أَنَّ رَجُلًا يَكْسِبُ مِنَ الْغِنَاءِ وَالضَّرْبِ عَلَى الدُّفِّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَانِي لَا أُرْزَقُ إِلَّا مِنْ دُفِّي بِكَفِّي فَأْذَنْ لِي بِالْغِنَاءِ فِي غَيْرِ فَاحِشَةٍ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا آذَنُ لَكَ وَلَا كَرَامَةَ وَلَا نِعْمَةَ ، كَذَبْتَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ تَعَالَى حَلَالًا طَيِّبًا ، فَاخْتَرْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِنْ حَلَالِهِ " .
وَفِي الْعِبَارَةِ السَّامِيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ إِشَارَتَانِ بَلَاغِيَّتَانِ :
إِحْدَاهُمَا : تَقْدِيمُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ عَلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3يُنْفِقُونَ وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُمْ لَا يُنْفِقُونَ مِنْ كَسْبٍ خَالِصٍ لَهُمْ بَلْ إِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُوَ وَحْدَهُ الرَّزَّاقُ إِنْ شَاءَ أَعْطَى ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَ ، وَلَسْتَ أَيُّهَا الْمُنْفِقُ تَرْزُقُ نَفْسَكَ إِنَّمَا يَرْزُقُكَ اللَّهُ وَحْدَهُ ، فَأَنْتَ تُعْطِي مِنْ عِنْدِهِ ، وَتَجُودُ عَلَى نَفْسِكَ وَعَلَى عِبَادِهِ مِنْ عِنْدِهِ ، فَالتَّقْدِيمُ لِلْقَصْرِ أَوَّلًا ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِالْإِنْفَاقِ ثَانِيًا .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْإِنْفَاقَ لَا يَكُونُ بِكُلِّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ يَكُونُ بِبَعْضِهِ وَإِنْ كَانَ الْكَثِيرُ فَـ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ لِلتَّبْعِيضِ ; أَيْ : يُنْفِقُونَ بَعْضَ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ ، فَلَا يَكُونُونَ كَالْمُبَذِّرِينَ ، وَإِنَّ الْمُبَذِّرِينَ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسْتَكْثَرُ فِيهِ الْكَثِيرُ ، فَكَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنْفَاقُ أَلْفٍ فِي بِرٍّ لَا سَرَفَ ، وَإِنْفَاقُ دِرْهَمٍ فِي غَيْرِ بِرٍّ سَرَفٌ . وَإِنَّمَا مَوْضِعُ الْإِسْرَافِ أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ خَبِيرٌ .