* * *
كان السبب في غرورهم ، واستعلائهم الفاسد أنهم بتوالي نعم الله تعالى عليهم حسبوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، ولذلك قالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة وقد تلونا ذلك من قبل .
وقد دلاهم الشيطان بغرور فكانوا يحسبون ذلك ، ويدعون في ظاهر قولهم أنهم يؤمنون ، ويواجهون النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفرهم به ، فأمر الله تعالى نبيه الذي يواجهونه بذلك الكفر أن يتحداهم ليكشف أمرهم بأن يتمنوا الموت فقال تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كانت الدار الآخرة التي تكون عند الله علام الغيوب ولا سلطان لأحد سواه ، خالصة لكم من دون الناس ، أي أنكم في منزلة والناس دونكم ، ولا تكون إلا لكم ; لأن غيركم من الناس - سواء كانوا أتباع محمد أم لا - هم دونكم لا يبلغون منزلتكم بل أنتم وحدكم الذين تنالونها .
إن كانت هذه الحياة الآخرة لكم خالصة فتمنوا الموت الذي هو الطريق إليها إن كنتم صادقين في زعمكم ; لأن من آمن بأنه المختص بنعمة تمنى الوصول ، أن يسرع في الذهاب إليها ، وإنها جنات ونعيم مقيم ، فتمنوا الموت الذي هو الطريق الوحيد إليها ، إن كنتم مؤمنين إيمان صدق وإذعان بما تدعون .
[ ص: 322 ] وهنا إشارة بيانية يحسن التنبيه إليها :
الأولى : في كلمة ( لكم ) فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص ، وقد ابتدأ بها بيانا لزعمهم ، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس .
الثانية : الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين ، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه .
الثالثة : الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين ، بل هم كاذبون ; ولذلك كانت أداة التعليق هي إن في قوله : إن كنتم صادقين ولهذا نفى الله سبحانه أن يتمنوه .
* * *
تنبيه : يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى : بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنـزل الله بغيا وقوله تعالى : قل بئسما يأمركم به إيمانكم وفي قوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله
لم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك ؟ ونقول ما تصل إليه مداركنا - والله هو الحكيم العليم - إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو عليه الصلاة والسلام ; ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم .
ولقد قال سبحانه وتعالى حاكما على حالهم بأنهم في ذات أنفسهم وفي مداركهم يعلمون مآثمهم ، ويعلمون كذبهم ; ولذلك ليست الجنة لهم ، ولذا لا يتمنون الموت ، فقال تعالى : ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم نفى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك التمني نفيا مؤبدا ، وأكد ذلك النفي بـ " لن " الدالة على النفي المؤبد ، وبقوله سبحانه وتعالى : أبدا وبذكر السبب ألا وهو ما قدمت أيديهم ، ومعنى ذلك أنهم كاذبون في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم كاذبون في قولهم : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[ ص: 323 ] وإنهم يعلمون ما قدموا من كفر ، وما قدمه أسلافهم ، ولم ينكروه عليهم من اتخاذ العجل ، ومن كفر بالنعم التي أنعم الله عليهم وكفروا بها .
وقوله : بما قدمت أيديهم الباء للسببية ، والمراد ما قدموه هم بأنفسهم ، من كفر قلوبهم ، وجحودهم بآيات الله تعالى ، واعتدائهم في يوم السبت ، وتأييدهم لأسلافهم في ذلك ، ومن كفرهم بألا يجاب الذي جاء مصدقا لما معهم ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا به ، ولكن لماذا عبر بأيديهم ، دون أنفسهم ; ونقول : أولا - يجوز ذلك تعبيرا عن الكل باسم الجزء ، وإن ذلك الجزء أظهر الأجزاء في العمل ، فهو الذي به البطش والاعتداء ، وارتكاب المآثم الجماعية .
وثانيا - فيه إشارة إلى الناحية الحسية فيهم ، فهم أيد باطشة آثمة ، وليس لهم قلوب مدركة عالمة .
ولقد سجل الله تعالى عليهم الظلم ، فقال تعالى : والله عليم بالظالمين وقد صدر الله سبحانه وتعالى الحكم بلفظ الجلالة تربية للمهابة ، ولبيان أنهم مأخوذون والله القادر القاهر هو الذي يأخذهم بظلمهم ، وبين عظيم علمه ، ودقة علمه ، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأظهر في موضع الإضمار فلم يقل سبحانه وتعالى عليم بهم وبما قدمت أيديهم بل قال : عليم بالظالمين ليسجل عليهم وصف ظلمهم ، وأنهم معاقبون بهذا الظلم الذي هو كالسجية لهم .
ولقد قال الله تعالى في هذا المعنى ، وهو طلب تمني الموت ، وامتناعهم في سورة الجمعة : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين والفرق بين النصين ، وإن كان كلاهما في مرتبة من البيان يعجز عنه البشر ، في أمرين :
الأمر الأول - أن الشرط في الآية الكريمة التي [نتصدى] لتعرف معناها شرط كبير ، وهو أن تكون لهم الدار الآخرة من دون الناس ، فالشرط يتضمن الخلوص لهم وقصرها ، ولن يتمنوا ذلك فكان النفي بـ لن ، والشرط خال من معنى زعمهم .
[ ص: 324 ] الثاني - أن الآية الثانية كان " الشرط الزعم بأنهم من أولياء الله من دون الناس ، فكان النفي بـ " لا " ، وهو دونه " فكان النفي بـ " لا " لا بـ " لن " على مقدار الشرط ، وكذلك يصرف الله الآيات في كتابه الحكيم .
وبعد ذلك التحدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه ، كان الوصف الحقيقي لبني إسرائيل بالنسبة للموت والحياة الآخرة ، وأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، ولا يؤمنون بأن لهم جزاء محمودا ، وأنه يرتقبهم خير ; ولذا تمسكوا بالحياة الدنيا ، لأن العصاة يظنون أنها الحياة وحدها ، ولا يرجون خيرا لأنفسهم المادية في لقاء الله تعالى ، فقال تعالت كلماته : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم بأنهم بالقسم المؤكد باللام ونون التوكيد الثقيلة ، ونكر سبحانه وتعالى " حياة " في قوله تعالى : أحرص الناس على حياة على حياة لتعميم معاني الحياة ، فهم يحرصون على حياة أيا كانت صورتها ، سواء كانت حياة ذل أم كانت حياة عز ، وسواء كانت حياة استعباد أم كانت حياة حرية ، وسواء أكانت تحكمها الفضيلة أم كانت تحكمها الرذيلة ، إنهم يحرصون على الحياة ذاتها من غير نظر إلى وصفها سواء أكانت مقيتة في ذاتها ، أم كانت بكرامة من غير مهانة . وإن هذا يدل على كمال الحرص .
قال تعالى : ومن الذين أشركوا أي منهم من هم أحرص على حياة أيا كانت من الناس جميعا ، ومن الذين أشركوا ، وهم الوثنيون ، وخصوا بالذكر ، لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، وأولئك اليهود أهل كتاب ويؤمنون به في الجملة ، ولكنهم مذنبون تحيط بهم خطاياهم من كل ناحية .
وهم أحرص من المشركين على الحياة ; لأنهم يريدون الحياة على أية صفة عزيزة كريمة أو ذليلة ، أما المشركون من العرب فإنهم لا يريدونها إلا عزيزة لا ذلة فيها ، وشاعرهم الجاهلي يقول :
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل ماء الحياة بذلة كجهنم
وجهنم بالعز أطيب منزل
[ ص: 325 ] ولذلك كانوا أحرص على حياة ، والمشركون يحرصون على حياة عزيزة كريمة ، وإن كانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور ، ولا حساب ولا عقاب ، ويصور الله سبحانه وتعالى حرصهم على الحياة بقوله تعالت كلماته : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة يود هنا بمعنى : يتمنى أحدهم ، أي أحد اليهود ، لو يعمر ألف سنة ، ولو هنا مصدرية وهي التي تجيء بعد التمني كقوله تعالى : ودوا لو تدهن فيدهنون فهنا " لو " مع الفعل بعدها مصدر غير أنها لا تنصب ( مثل أن ) . وذكر ألف عام لأنه أكبر عدد في زعمهم . . طلب أعرابي عطاء من حاكم من حكام بني أمية ، فأعطاه ألفا ، فقال له قائل : لو طلبت أكثر من ألف لأعطاك ، فقال : لو كنت أعلم أن فوق الألف عددا لطلبته ، فالألف كناية عن أكبر عدد .
ومع أنهم يودون الحياة إلى أقصى أمد ، ألفا أو أكثر ، فإن العذاب ملاقيهم ، قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم بالعذاب الذي يستقبلكم ; ولذا قال تعالى : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر الزحزحة الإبعاد أو الإزالة ، وهي تدل على المعاناة في الإبعاد والإخراج من المكان الذي حل فيه كقوله تعالى : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
و" ما " في قوله : وما هو بمزحزحه من العذاب النافية ، والباء دالة على استغراق النفي ، وهي زائدة في الإعراب لها دلالة في المعنى ، والضمير " هو " يعود على الأحد الذي يود أن لو يعمر ألف عام أو أكبر عدد ممكن ، والمعنى على هذا التخريج : وما هو ؟ أي هذا الشخص بمبعده ولو بمعاناة ومعالجة عن العذاب تعميره ، فالمصدر المكون من أن يعمر فاعل لمزحزحه ، وقد أكد سبحانه وتعالى النفي بإعادة الضمير لتأكيد النفي ، وبالباء ، وبكلمة مزحزح .
وما ذلك النفي المؤكد لوجود العذاب مهما طال الزمن - إلا لأنه ارتكب من الخطايا ما يستحق ذلك ، والله تعالى عليم بكل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ; ولذا ختم الآية بقوله تعالى : والله بصير بما يعملون والله ذو الجلال والإكرام القادر القاهر الفاعل المختار بصير أي عالم علم من يبصر [ ص: 326 ] على مثال ما به الناس ، بما يعملونه من شرور وآثام ، وجحود بآيات الله تعالى في ماضيهم وحاضرهم ، ومنزل من العذاب بمقدار ما يستحقون . ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
* * *